الهجرة والدعوة الإسلامية

من أقوم السنن وأفضل العادات أن تحتفل الأمة بذكرى حوادثها المشهودة وماضيها المجيد، لأن هذه الذكرى تقوّي آمال ذوي العزائم الوثابة، وتعالج ضعف ذوي النفوس اليائسة، وتملي دروساً نافعة للفرد وللجماعة.

ومن أحق الحوادث بأن يحتفل المسلمون بذكراها حادث هجرة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين هاجروا معه من مكة إلى المدينة في سنة 622 للميلاد، فما كانت هذه الهجرة رحلة سفر لاختيار وطن بدل وطن، أو للترويح عن النفس، أو للفرار من شر، وإنما كانت التماساً للتربية الطيبة للبذر الصالح، ونقلاً للجهاد من ميدان إلى ميدان، ودرساً عملياً يستلهم منه الدعاة والمصلحون كيف يواصلون جهادهم ويكفلون نجاحهم، ويحققون أغراضهم.

وفي كل واقعة من وقائع الهجرة وفي الأسباب التي أدّت إليها والنتائج التي ترتبت عليها والخطة التي نفذت بها دروس وعبر.

فمن ينشد أروع مثل في التضحية يجده في الهجرة، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه في سبيل دعوتهم ونصر دينهم ضحوا ببلدهم ومالهم، وكل مصلحة لهم في وطنهم، ولم يبال الأب منهم بأن يترك أولاده، ولا الزوج بأن يترك زوجته، ولا الغني بأن يترك أمواله، وذلك لأن المؤمن الصادق يؤثر بيئة الحق على كل بيئة، ويجد في إخوانه المؤمنين آباء وأبناء وإخوة وعشيرة.

ومن ينشد أروع مثل في الإقدام والمخاطرة في سبيل الحق، وجده في الهجرة، وأية مخاطرة أخطر من مبيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليلة الهجرة في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن قتلة قريش بأسلحتهم ساهرون حوله مغتنمين أول فرصة للقضاء عليه. وأية مخاطرة أخطر من خروج محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه من مكة في فجر يوم الجمعة ليس معهما أسلحة ولا أدوات دفاع، وهم يعلمون أن أعداءهم بعددهم وعددهم لا يدخرون جهداً في طلبهم ورصدهم، وأية مخاطرة أخطر من دخول أبي بكر رضي الله عنه وصاحبه صلى الله عليه وسلم في غار ثور وإقامتهما به ثلاث ليال على ظلمته ووحشته، وهم يسمعون وقع أقدام أعدائهم، والمخاطرة في سبيل نصرة الحقة لا تنشأ عن قوة البدن أو وفرة العدد، وإنما تنشأ عن قوة الإيمان والثقة بالله تعالى، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه وهما في الغار: [لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا] {التوبة:40}.

ومن ينشد أروع مثل في التماس المجاهد سبل الخير للوصول إلى هدفه، واعتصامه بالصبر والأناة والأمل كلما سُدت سبيل في وجهه، وجده في الهجرة، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بعد أن قضى بمكة ثلاث عشرة سنة وبضعة شهور يرى الباطل تعلو كلمته، والظلم والوثنية وآثام الجاهلية والعصبية يتحكم في الرقاب، صبر وصابر، وفكر وقلَّب وجوه الرأي فيما يصل به إلى إعلاء كلمة الحق وإزهاق هذا الباطل، وما أضعفت الشدائد عزيمته، ولا ضاق ذرعاً بما يصادفه، والمصلح الواثق من أنه على هدى ودعوته هي الحق لا يفتُّ في عضده إعراض مبطل أو مقاومة حاسد، بل يلتمس لدعوته ومبادئه آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، والبذر الطيب لابدَّ أن يصادف تربة طيبة ويؤتي ثمره.

والذي أقصد إليه بكلمتي هذه أن الهجرة ما كانت إلا لبث دعوة الإسلام وتبليغ رسالة الإسلام، وعلى المسلمين إذ يحتفلون بذكرى الهجرة أن يكون أول مظاهر ابتهاجهم التفكير الجدي العملي في نشر دعوة الإسلام وتبليغ رسالة الإسلام.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة وأزال العقبات التي كانت قد وضعها المشركون في سبيل الدعوة، بث دعوته بنفسه وبأصحابه وبرسله وكتبه، وسلك كل سبيل استطاع أن يسلكها لتبليغ الناس رسالة ربه، وفي خطبة الوداع في حجة الوداع قال صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (ألا هل بلّغت، وقال المسلمون: بلغت وأدّيت، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد، وقال صلى الله عليه وسلم: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، أي ليبلغ من بلغته الدعوة من لم تبلغه، ومراده صلى الله عليه وسلم أنه على المسلمين أن يكون منهم في كل عصر وكل إقليم هداة دعاة يحملون مصباح الإسلام ويضيئون به كل بيئة محرومة من ضيائه.

إن في العالم الآن أمماً وشعوباً لم تُدع إلى الإسلام ولم تقف على حقيقة عقائده وأخلاقه وأحكامه.

وفي العالم الإسلامي الآن شعوب وجماعات يدينون بالإسلام ولكنهم في حاجة إلى أن يفهموه على وجهه، وتمتزج أرواحهم بمبادئه وهداه، ومن عاشر بعض البدو في شبه الجزيرة العربية أو في إفريقية يتبين مبلغ تفريط المسلمين في تعليم دينهم من لم يعلموه.

والحقيقة التي أقررها أن في العالم الآن شعوباً وأقاليم لم تشرق عليها شمس الإسلام ولم تصل إليها دعوته، وأن في بعض المسلمين من لم يعرفون عقائده وأحكامه حقَّ المعرفة.

وعلى المسلمين واجب أن يدعوا إلى الإسلام من لم يدعوا إليه، وأن يعلموا الإسلام من لم يعلموه على وجهه.

وإذا احتفلوا بذكرى الهجرة فعليهم أن يتذكروا أنهم مقصرون في أقدس واجب هاجر محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم من أجله، وعليهم أن يكملوا ما بدأه المسلمون الأولون، وأن يسيروا على سننهم، وأن يكون منهم دعاة هداة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد الخامس، المجلد الثامن، محرم 1374 - سبتمبر 1954

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين