ألا نـتــوب ؟!

تعالوا حَنَانَيكم مَنْ منَّا لا يستشعر حاجته إلى الله تعالى ؟!

مَنْ مِنَّا لم يفرط في جنب الله فتبدر منه المكروهات والرعونات ، بل يتلطخ بالشهوات المُرْديات المُتْلفات ، وقد استرسل بعضهم إلى أن استولت عليه الغفلات فهو لا يصحو من غفلته حتى يفجؤه الموت!

حدِّثوني بالله عليكم مَنْ مِنَّا ليس بحاجة إلى محاسبة لهذه النفس الأَمَّارة بكل سوء ؟!

ومِنْ هنا اتجه الخطاب إلى المؤمنين بالتوبة إلى الله! فقال تعالى : { ... وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ النور : 31 ]

كيف رأيتم ؟!

الخطاب للعصاة ؟! الخطاب لأهل الكبائر ؟! لأهل السوء والمخالفات ؟! لم يذكروا بالخطاب! بل وُجِّه الخطاب بـ ( أيها المؤمنون ) وترتَّب الفلاح على هذه التوبة!

ممّ نتوب ؟ ولماذا لا ننفك عن حاجتنا لهذه الأوبة ؟ ولماذا تطلب على الدوام وفي جميع الأحيان ؟

يقول حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد الغزالي – رحمة الله عليه – مجيباً عن هذا في كتاب التوبة في أول ربع المنجيات من كتابه الشهير ” إحياء علوم الدين “ : « التوبة فرض عين في حق كل شخص ، لا يتصور أن يستغني عنها أحد من البشر ، كما لم يستغن آدم ؛ فخلقة الولد لا تتسع لما لم يتسع له خلفة الوالد أصلاً .

وأما بيان وجوبها على الدوام ، وفي كلِّ حال ، فهو أن كل بشر لا يخلو عن معصية بجوارحه إذ لم يَخْلُ عنه الأنبياء ، كما ورد في القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء ، وتوبتهم ، وبكائهم على خطاياهم . فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح ، فلا يخلو عن الهمِّ بالذنوب بالقلب . فإن خلا في بعض الأحوال عن الهمّ ، فلا يخلو عن وساوس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله . فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله ، وصفاته ، وأفعاله . وكلُّ ذلك نقص . وله أسباب ، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده ، والمراد بالتوبة الرجوع ، ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص ، وإنما يتفاوتون في المقادير . فأما الأصل فلا بد منه . ولهذا قال u : « إِنَّهُ لَيُغَانُ ([1]) عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ » ، ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال:{ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ... }[ الفتح : 2 ] وإذا كان هذا حاله ، فكيف حال غيره ؟ » انتهى كلام الإمام .

هذا كلام نفيس جداً وبالتأمل فيه تتبين لنا طبقات الناس ، وبالتأمل فيه أيضاً يتبدَّى لنا أن خطايا الأنبياء عدَّها مَنْ عدَّها منهم – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – خطايا بالنظر لأحوالهم المرتقية على الدوام صعداً في سلالم القُرْب من حضرة الله تعالى ومعرفته ؛ إذ هم منـزهون عن الخطايا ؛ إذ مما يعتبر خطايا عند الأكابر الهم بالذنب ، وانطواء القلب على عزم سيء ، ثم يترقون إلى التأثر بالخواطر التي تنأى بهم عن ذكر الله والحضور معه ، ثم يترقون إلى عَدِّ تفويت شيء من المعرفة اللائقة بالله أو صفاته ، أو أفعاله .

وعلى هذا يحمل قول من قال : « حسنات الأبرار سيآت المقربين » فالمُقَرَّب فوق البارّ ولنأخذ مثالاً على ذلك : المقرب لا يُفَوِّت الصلاة عن أول الوقت ، والبارّ قد يفوته أول الوقت في بعضها فإذا صلَّى في يوم أربع صلوات مفروضة مع الجماعة في أول الوقت عدَّ ذلك حسنة وفرح بها ، أما المقرب إن نزلت إلى أربع وفاتته واحدة في أول الوقت عدَّ ذلك سيئة ، وأخذ يستغفر الله منها ، ويتعكر لذلك .

وهكذا تصبح محاسبات الأكابر لنفوسهم دقيقة ؛ قد ذكروا أن أحد الأكابر من العارفين قال : أنا أستغفر الله من قولي مرة الحمد لله منذ ثلاثين سنة! ولما طَلَبوا معرفة السبب – وهم يتعجبون من ذلك – قال : « احترق سوق من أسواق بغداد كان لي فيه دكان ؛ فقالوا لي : احترق السوق ونجا دكّانك فقلت : الحمد لله ؛ فأنا أستغفر الله من إظهار هذا الفرح وقد ذهلت من مُصَابِ جواري في السوق! »

أرأيتم كيف عدَّ عدم التأثر لمصاب الجيران ذنباً وقد فضَّل بذلك نفسه عليهم ، وفرح بعرض زائل ولم يسترجع لمصاب إخوانه ؟!

وهكذا كانوا يعرفون خطاياهم بمعاشرات الناس ؛ بل قال بعضهم أعرف حالي مع الله من خلق زوجتي معي وحَرَنِ دابتي ، فإن نَشَزت الزوجة وارتفع صوتها عليه عدَّ ذلك عقوبة له! ومن علامات الخذلان – عافانا الله – عقوبة على التفريط بحقوق الله التهاون بسنن وآداب المصطفى صلى الله عليه وسلم. فكم من الناس يتهاونون بها ولا يجدون أيَّ غضاضة في ذلك وإن حدثتهم على أهمية لزومها واقتفاء آثارها قالوا لك : أليست هي السنن التي يؤجر على فعلها ، ولا يأثم بتركها ؟!

يا هؤلاء اشتغلتم وعمرتم أوقاتكم بما هو أَبْرَك لكم ، وأجدى عليكم من سنن نبيكم ؟!!

تعالوا! ألا تتدبرون أحوالكم ؟! أحالكم يرضي الله تعالى ؟! ألا تشعرون بهذا المصاب الكبير ؟!

تقولون: أي مصاب نحن فيه ، الحمد لله فنحن نصلي ونصوم ونزكي وحججنا مرات و .. و .. !!

تعالوا لننعطف على أنفسنا بمحاسبة صادقة ما قيمة أن تكون منّا صور وعبادات ورسوم طاعات لم نحضر فيها ولم نذق فيها لذة المناجاة والقرب ؟!

ماذا حَوَّلت هذه الصلاة من أحوالنا ؟!

أليست الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فنحن نصلي ولكن هل انتهت الفواحش والمنكرات في أُسَرنا ومجتمعاتنا ؟!

جاء في بعض الآثار أن الله سبحانه أخبر نبياً من أنبيائه أني سأعاقب قومك على إعراضهم فلما لم يجد عقوبة لهم فكأنه استغرب من تأخر الوعد الإلهي فأُوحي إليه ألا يكفي من عقوبتي لهم أنني حرمتهم لذة العبادة !!

فإنا لله وإنا إليه راجعون فأكثرنا معاقبون وواقعون في السخط الرباني ونحن لا نشعر ؛ فلنحاسب أنفسنا ، ولنجدد توبة مع الله ، فإلى متى وكأن الموت قد كُتب على غيرنا ، وكأننا ضمانة بالغفران ، وحتى المغفور له ألا يعمل لأن ربه أهل لأن يُعبد ، ويتَّقى ويُستغفر لأنه أهل التقوى وأهل المغفرة ؟! 

نسأل الله العفو والعافية ، والحمد لله أولاً وآخراً .

تعليقة حول معنى حديث : « إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ »

الذي ينبغي أن يُذكر هنا ما ارتضاه الأكابر من علماء هذه الأمة وعارفيها بمقامه الكبير صلى الله عليه وسلم وحاشاه أن يغفل عن ربه لحظة ، وقد شرح هذا الإمام الغزالي – رحمه الله – فقال : لقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من رتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بُعداً بالإضافة إلى الثانية . فكان يستغفر الله من الأولى ، ويرى ذلك نقصاً في سلوكه وتقصيراً في مقامه ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : « إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي .. » الحديث . فكأن ذلك لترقيه إلى سبعين مقاماً ، بعضها فوق بعض ، أولها وإن كان مجاوزاً أقصى غايات الخلق ، ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى آخرها . فكان استغفاره لذلك ( من كتاب الصبر والشكر من كتاب الإحياء ) .

وقال الغزالي أيضاً – رحمه الله – في كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا من كتاب الإحياء : قدمنا أن درجات القرب لا نهاية لها ، وحق العبد أن يجتهد في كل نَفَس حتى يزداد فيه قرباً .. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم : « إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي .. » الحديث ، وإنما كان استغفاره من القدم الأول ، فإنه كان بعداً بالإضافة إلى القدم الثاني .

وأقول حاشا أن تتغشَّى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غفلة كغفلتنا وهو القائل : « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ ، قَالُوا : وَإِيَّاكَ ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ : وَإِيَّايَ ، إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ ، فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلاَّ بِخَيْر » عن ابن مسعود – صحيح مسلم – كتاب صفات المنافقين وأحكامهم – باب تحريش الشيطان ..

قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه على مسلم : فأسلم برفع الميم وفتحها وهما روايتان مشهورتان فمن رفع قال معناه : أسلمُ أنا من شره وفتنته ، ومن فتح قال : إن القرين أسلم من الإسلام وصار مؤمناً ، لا يأمرني إلا بخير . واختلفوا في الأرجح منهما ..

قال القاضي – أي عياض - : واعلم أن الأمة مجتمعة على عِصْمة النبي r من الشيطان في جسمه ، وخاطره ، ولسانه .

هذا وقد ذكر الإمام النووي – رحمه الله – شروحاً لطيفة غالية في التعليق على ( ليُغَانُ على قلبي ) منها :

قيل : هو همه بسبب أمته ، وما اطلع عليه من أحوالها بعده ، فيستغفر لهم .

وقيل : سببه اشتغاله بالنظر في مصالح أمته ، وأمورهم ، ومحاربة العدو ، ومداراته ، وتأليف المؤلفة ، ونحو ذلك ، فيشتغل بذلك عن عظيم مقامه ، فيراه ذنباً بالنسبة إلى عظيم منـزلته ، إن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات ، وأفضل الأعمال فهي نزول عن عالي درجته ، ورفيع مقامه من حضوره مع الله تعالى ، ومشاهدته ، ومراقبته ، وفراغه مما سواه ، فيستغفر لذلك .

وقيل : يحتمل أن هذا الغين هو : السكينة التي تغشى قلبه لقوله تعالى : { ... فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ... } [ الفتح : 18 ] ، ويكون استغفاره إظهاراً للعبودية والافتقار ، وملازمة الخشوع ، وشكراً لما أولاه .

وقيل : يحتمل أن هذا الغين حال خشية ، وإعظام يغشى القلب ، ويكون استغفاه شكراً ، كما سبق – في شرحه على مسلم – .

ونسأل الله تعالى أن ينشلنا من غفلاتنا ، ويزجَّ بنا في نور معرفته ، وقُدْس تعظيمه ، وأن يزيدنا معرفة بقدر نبينا وقدوتنا وهادينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينفعنا بوُرَّاثه ، وخاصة الدعاة من آله ، صلى الله عليه وسلم، والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.

------------------------------

([1]) رواه مسلم عن الأغرّ المزني في كتاب الذكر والدعاء – باب استحباب ، الاستغفار والاستكثار منه، وسيأتي بيان معناه

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين