الفكر السياسي الإسلامي بين الثبات والتغير

تقع على عواتق علماء الفكر السياسي الإسلامي المعاصر مسؤولية كبرى، في ضرورة تجهيز روافع النهوض الحضاري المنشود، من خ?ل تطوير الفكر السياسي الإسلامي الذي يناط به تنظيم طاقات ومكونات المجتمع، ونقلها من مضامير التآكل إلى ساحات التكامل، ومن مواقع التباين إلى صفوف التعاون، بحيث تنسجم مع بعضها و? تصطدم، وتتظافر و? تتنافر، وتتعاون على توفير ا?من وا?ستقرار الكفيلين بصناعة مراقي النهوض المنشود.

التفكير التقليدي:

ولما كان فاقد الشيء لا يعطيه، فإن كثيراً من مفكرينا في المجال السياسي ? يضيفون اليوم جديدا؛ ذلك أنهم أصبحوا مقلدين للسلف، حيث يستدعي أكثرهم الماضي بدون وعي بالمنهج الذي استندت عليه تلك التجارب البشرية، ويجترون مسائل التراث بدون تمييز بين الثوابت والمتغيرات.

ومهما كان رأي كثير من تيارات الفكر السياسي الإسلامي في عديد من القضايا، فإنها تتفق في اتكائها على التأريخ وفي نهلها من عيون التراث، مما أدى إلى تخلف الفكر السياسي عن الركب الإنساني ومساهمته بقوة في صناعة التخلف الحضاري الذي تعاني من وي?ته أمتنا وتدفع أثمانه الباهظة كل يوم.

تباين الرؤى وتوحد المنهج:

وعلى سبيل المثال فإن التقليديين مع اخت?ف مشاربهم، عندما نسألهم حول حكم تقديم رئيس الدولة ?ستقالته من منصبه في نظام سياسي إس?مي معاصر، يختلفون في ا?جابة بين مجيز ومانع، لكنهم يتفقون في المنهج الذي انطلقوا منه لصوغ إجاباتهم، حيث يلتفت أغلبهم إلى التراث و? ينظرون إلى الواقع الذي يعيشون فيه، و? يستصحبون المصلحة المتوخاة و? يستشرفون المفاسد او يتجنبون مآ?ت الفساد وعواقب السوء؛ ?نها لم تدخل في حسبانهم أص?، ظانين أن التراث يمتلك الحل لكل مشكلة، والمخرج من كل معضلة، وا?جابة عن كل سؤال!

لقد وجدنا المانعين ?ستقالة الحاكم يستدلون برفض عثمان بن عفان لتقديم استقالته، عندما طالبه الخارجون عليه بخلع نفسه!

واستدل الموافقون في المقابل بفعل الحسن بن علي بن أبي طالب، الذي كان قد بويع بعد استشهاد والده بيعة شرعية، من قبل عدد كبير من أهل الحل والعقد، لكنه قدم استقالته بعد نحو 6 أشهر، وذلك سنة 41ه لصالح معاوية بن أبي سفيان الذي كان قد سيطر على كثير من الو?يات، وهدف الحسن من استقالته إلى عودة اللحمة للخ?فة ا?س?مية بعد انقسامها إلى جناحين متحاربين منذ اغتيال عثمان، ولذلك أطلق المسلمون على ذلك العام عام الجماعة، حيث عادت وحدة ا?مة واستؤنفت الفتوحات الإسلامية.

وهنا أسأل التقليديين: هل ما فعله عثمان والحسن كان لابتغاء المصالح وتجنب المفاسد، أم أن ك? منهما كان يسير وفق حكم شرعي ? يجوز له تبديله والخروج عنه؟ ولماذا اختلفا إن كان النص موجودا؟ وهل فعل الصحابي حجة علينا اليوم يجب العمل به و?سيما في إطار الفكر السياسي؟ وما الفرق بين النص الشرعي المعصوم وبين ا?جتهاد البشري النسبي؟ وإذا لم يكن للاجتهاد والتجديد حضور في الفكر السياسي وهو ا?كثر اتصا? بمتغيرات الحياة وا?شد حاجة للتطوير، فأين سنجد ا?جتهاد؟ وما هي وظيفته إذا؟

تجفيف منابع الخلط:

لكي نغادر مرابع التقليد ومرابض ا?جترار، باعتبارها من أهم منابع الضخ للتخلف القائم وصناعة مستنقعات ا?نحطاط، ينبغي أن يكف العقل المسلم عن الخلط بين الثوابت والمتغيرات في مسائل الحياة عامة و?سيما في الفكر السياسي؛ ?ن الخلط هنا يؤدي إلى ركود الحياة، حيث يتحول التراث بهذه الطريقة إلى أداة لمقاومة النهوض، وتصير كثير من رؤاه أحجار عثرة توضع أمام قطار التقدم، مما يطبع الحياة بالركود والتعفن وربما أصابها بالشلل، ويحرمها من إمكانات التجدد والتطور ومن أفكار التفوق والتألق!

ومن حكمة الله أن جعل ثوابت الفكر السياسي الإسلامي قليلة جدا، مثلما أوضح أع?م الفكر السياسي كإمام الحرمين الجويني الذي أشار إلى أن معظم مسائل السياسة عرية عن القطع خالية من اليقين.

أي أنها إما نصوص متشابهة وعناوين كلية، تحتمل تعدد الرؤى التي تستوعب مصالح المجتمعات باخت?ف ا?زمان وا?ماكن، أو خالية من النصوص حتى يبتكر العقل ما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد.

محدودية الثوابت:

وبتدبر النصوص ذات الصلة بالفكر السياسي، بحثاً عن الثوابت وتنقيبا عن الكليات، سنجد مجموعة من القيم العامة التي تمثل عناوين للفكر الإسلامي، وفي طليعتها سبع قيم هي:

الحرية، الشورى، المساواة، المسؤولية، النظام، العدالة، الوحدة.

لكن جزئيات هذه القيم وتفاصيلها وفروعها، ثم طرائق فهمها وتنزيلها على العصر، ثم ا?ليات والوسائل وا?ساليب التي ستجسدها في الواقع بما يضمن جلب المنافع ودفع المضار، كل ذلك لم تأت به النصوص، لتظل من المتغيرات التي ينبغي إعمال العقل فيها دراسة وبحثا، تطويرا وتجديدا، اختراعا وابتكارا، بل حتى استفادة واقتباسا من أصحاب الخبرة والتجارب الغنية في هذا المجال، ولو كانوا غير مسلمين، وذلك من باب قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، وهم أهل التخصص والخبرة والدراية، مهما كانوا.

وبذلك فقط يتخلص الفكر السياسي الإسلامي من أزماته ومآزقه، ويصبح قادرا على تحقيق ا?ستقرار ا?جتماعي وإنجاز التبادل السلمي للسلطة، ويستطيع التحليق نحو الفضاءات الرحبة في اختيار ا?صلح وا?كفأ لقيادة ا?وطان نحو آفاق التقدم، والمضي بمشاريع ا?مة النهضوية نحو العلياء.

مقصد الوحدة:

ولكي يتضح ا?مر ?سرى التقليد بشكل أجلى، سأضرب مث? بقيمة الوحدة، فإنها وفق الرؤية ا?س?مية قيمة رفيعة ومقصد سامي، كرستها آيات القرآن الكريم في مناسبات كثيرة وبأساليب عديدة، وعززتها أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وتطبيقاته الوحدوية، والتي جعلت ا?مة كالجسد الواحد بأعضائه المتنوعة في أشكالها وأحجامها وفي أماكنها ووظائفها.

و?همية الوحدة في منظومة القيم الحضارية في ا?س?م، فقد عد كثير من المفكرين والعلماء الوحدة قرينة الوحدانية!

لكن ا?س?م رغم هذه العناية الفائقة بالوحدة، لم يتحدث عن كيفية تطبيقها في واقع الناس و? عن آليات تجسيدها، وذلك حتى تتسم بالمرونة التي تستوعب سماحة ا?س?م، وتجسد عالميته، وتحقق خلوده، باستيعابه لكافة التنوعات والخصوصيات في إطار ا?مة الواحدة والدولة الجامعة.

وبهذه الصيغة يبقى التعدد والتنوع قائما لتفعيل سنن التدافع والتنافس والتداول، مع ضمان عدم ا?نز?ق إلى مهاوي ا?خت?ف البغيض، والتنازع المذهب للهيبة، والتصارع المدمر ل?مكانات.

وعليه فإن الشريعة ? تشترط طريقة محددة لتحقيق الوحدة، بل تترك ا?مر لظروف الناس وحاجاتهم!

بما يعني أن الوحدة ?بد أن تتحق بين مكونات ا?مة بالصيغة التي تتناسب مع حاجاتهم وظروفهم، ومن ثم يجوز أن تكون الوحدة اندماجية ذات سلطة واحدة في المركز، إذا ارتضاها الجميع لتجسد الحرية وتحقق العدالة ا?جتماعية والمواطنة المتساوية.

ويمكن أن تكون وحدة (فيدرالية) تراعي التنوع والخصوصيات المحلية، فتعطي ص?حيات واسعة للأقاليم مع وجود سلطة مركزية واحدة تحافظ على مقومات ا?مة ا?تحادية، كنمط الو?يات المتحدة ا?مريكية.

ويمكن أن تصبح وحدة (كونفدرالية)، تحتفظ بالشخصية ا?عتبارية للدول والمجتمعات، مع وجود التنسيق القوي بينها في الشؤون الداخلية وا?قتراب من التوحد في الشؤون الخارجية، كنمط ا?تحاد ا?وروبي.

مشكلة الخلط بين الثوابت والمتغيرات:

لاعتياد التقليديين على الخلط بين الثوابت والمتغيرات، فإنهم يصرون على شكل الوحدة ا?ندماجية، ويتحججون بأن الدولة ا?س?مية كانت اندماجية واحدة أيام النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين!

وهناك حقائق وقرائن تشير إلى أن الدولة ا?س?مية أيام النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، كانت ذات نمط خاص ? تشبه أيا من ا?نماط القائمة كلها، وتتفق مع كل منها في بعض الجوانب، لكنها في ما يتصل بقيمة الوحدة أقرب إلى نمط (الفيدرالية)، إذ كانت كل منطقة تحتفظ بخصوصياتها، وكان حكامها في الغالب من أبنائها.

وإذا افترضنا أن الدولة ا?س?مية كانت اندماجية بسيطة كما يرى التقليديون، فإن المستدل بطريقة التطبيق يعاني من خلل منهجي، إذ يخلط بين القيمة وا?ليات أو بين المقصد والوسائل.

ولو كانت تلك ا?ليات مقصودة بحد ذاتها، بحيث ? يجوز تغييرها و? تطويرها في أي زمان أو مكان، كان سيتم تحديدها في القرآن بنص يجاور القيمة نفسها.

المقصد ? الوسائط:

إن إعراض القرآن الكريم عن إيراد ا?ليات والتفاصيل السياسية، يمثل جوهر العظمة التنظيمية في هذا المجال، وذلك حتى تتحقق مرونة ا?س?م ويتم استيعاب يسره، والمهم هنا أن تتحقق القيمة وتتجسد المصلحة المبتغاة بأفضل كفاءة ممكنة.

وبمعادلة الثوابت والمتغيرات جمع الفكر السياسي الإسلامي بين مقومات ا?صالة والمعاصرة، ومزج بين ثبات القيم والمبادئ وبين تطور الوسائل وا?ليات، ويستطيع أن يحلق في سماء السمو بجناحي الحرية والوحدة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين