في جوار الله تعالى

قالوا: ما أقصى غايتك، وما أشرفُ ما تتطلع إليه وما أعز ما تبتغيه ساعيًا إليه في كفاحٍ وجِدٍّ دون تباطؤٍ وتوانٍ، وسائلاً ربَّك إياه في ابتهال وتضرع وخشوع؟ قلت: أن أُزحزَح عن النار وأُدخَل الجنة، قالوا: سقطتَ في أعيننا صغيرًا هيّنًا، قلت: وهل يُهِمُّني إلا أن أفوز، ساقطًا في أعينكم أو مرتفعًا، صغيرا أو كبيرا، هيِّنًا أو كريمًا، وما لكم استصغرتم أمنيتي مستخِفًّا بشأنها مستهينًا؟ قالوا: غيرُك يَزْهد في مثلها، طامحا إلى مطلب أعلى ومُراد أنبل وَلوعًا به شَغوفا. قلت: استغربتُ ممن لا يُخيفه عذابُ النار، ولا يَبغي الجنة مُقامًا، قالوا: روي عن رابعة البصرية رحمها الله تعالى أنها قالت: إنّي لا أعبد اللّه شوقاً إلى الجنة، ولا خوفاً من جهنم، قلت: فما الذي أمَّلَتْه في عبادة ربها وطاعته؟ قالوا: قضتْ حياةً كلها مجاهدة وعناء ومشقة وتعب شوقًا إليه وحبًّا له غير غافلة عنه قلبًا أوصارفة عنه بصرا.

قلت: أليس المشتاقون إليه والمحبون له أشد الناس خوفًا من النار؟ فالإنسان إذا دخل النار دخلها مغضوبا عليه، محرومًا من قرب الله تعالى ورؤيته (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)، مطرودًا عن كلامه منهيًّا، (اخسأوا فيها ولا تكلمون)، ومردودا عن لذاته ورغباته وأشواقه (حيل بينهم وبين ما يشتهون).

وقلت: أوليس ذوو خلته ومودته أعظمَ خلقه حنينًا إلى الجنة ونُزوعا؟ فإنها زلفى إلى ربهم وقربى، وفيها نُزُل من عنده والتذاذ برؤيته، وأهلُها بكلامه مُشرَّفون، وبِجِواره مُنْعَمون.

قالوا: وما سوّغ لك أن تُفارِق هذه المرأة الصالحة التي أُعْجب بزهدها وورعها سفيان الثوري وأمثاله؟ قلت: حَمَلني على مباينتها موقف المرأة التي ضربها الله مثلاً للذين آمنوا في كتابه العزيز يتلى شأنها إلى يوم القيامة، قالوا: من هي؟ قلت: امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتًا في الجنة، سألتْ ربَّها جِواره عالمةً أن جِواره لا يُحْظى به إلا في الجنة، قالوا: من أين علمتَ وَجْدها بجوار الله؟ قلت: من قولها "عندك". قالوا: ما لها قدَّمتْ "عندك" على "الجنة"؟ قلت: بعثها على ذلك ثلاثةُ دواعٍ، أولها عقلُها عُلُوَّ قدر الثَّاوين في جوار الله، الثاني إبداءُ رغبتها عن جوار زوجها الطاغية وزهدها فيه وتفضيلُ جوار رب العالمين عليه، والثالث أن الجنة قيمتها في كونها بجوار أرحم الراحمين، وقديمًا قالت العرب: الجار قبل الدار، فقيمة الدار عندهم بقيمة الجار، قالوا: ألا يمكن أن يكون هناك مآتٍ أخرى لكلامها غير التي ذكرتَ؟ قلت: بلى، ونحن مقيَّدون بعقولنا القصيرة ومداركنا الضيقة، وأنَّى للمخلوقين أن يحيطوا بكتاب ربهم جل وعلا فقها ومعرفة.

قالوا: لم تنفرد رابعة بذلك القول، وقد حكي عن معروف الكرخي أنه لم يعبد الله شوقا إلى الجنة ولا خوفا من النار، وأثر عن أبي سليمان الداراني أنه قال: الرضا أن لا يسأل الله الجنة ولا يستعيذ من النار، وقال رويم: إن الراضي لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل الله أن يحولها عن يساره، وروي مثله عن غيرهم، قلت: روي عنهم، وهم مخطئون معذورون، قالوا: ما خطؤهم؟ قلت: خطؤهم من ثلاثة أوجه:

الأول أنهم قاسُوا عذابَ جهنم على شدائد الدنيا، ونعيمَ الجنة على مياسرِ الدنيا، فعبد الله الصالح لا يشكو من شدائد الدنيا، لأنه يرجو عليها ثواب الله تعالى متوجها إليه مستغنياً عن غيره، ولا يفرح بمياسر الدنيا، لأنها حقيرة تافهة زائلة، حلاوتها مشوبة بمرارة، وراحتها ممزوجة بعناء، فاستفظعوا أن يستعيذوا من النار أو يسألوا الجنة.

الثاني أنهم حسبوا جهنم والجنة ماديتين، فطمحوا إلى معاني أسمى منها، وفاتهم أن جهنم قبل أن تكون عذابا للجسم عذاب للقلب والروح وأنها من آثار غضب الله وسخطه ونقمته، وأن الجنة قبل أن تكون لذة الجسم هي لذة القلب والروح، وأنها من مثوبة رضا الله تعالى ومحبته ووده.

والثالث أنهم ظنوا أن الاستعاذة من النار وسؤال الجنة اقتراح على المولى، والعبد يقنع بما قضى له مولاه راضيا برضاه، غير ذاكر بغيةً ولا ناشد مطلبا، وذهب عنهم أن من رضا الله تعالى أن يسأله عبدُه الجنة ويستعيذه من النار.

قالوا: كيف عذرتَهم على خطئهم؟ قلت: لأنهم أهل عبادته وطاعته، ولم ينوُوا إلا خيرا مجتهدين، والخطأ من أمثالهم مغفور، ولكن لا ينبغي لأحد أن يُتابعهم في خطئهم، فأنبياء الله ورسله وجميعُ أوليائِه المقربين وعبادِه الصالحين سألوه الجنة واستعاذوا به من النار.

قالوا: فقرِّب إلينا الجنة؟ قلت: هي دار عباد الله الأصفياء المرسلين والأنبياء، والصالحين الأبرار والمتقين الأخيار، وهي جوار رب العالمين، من دخلها نال الرضى، ومَنًّا ليس يُحصى، واستطاب المقيل متعرضا لعطائه الجزيل، وأضعف له أضعافا بجزائه، وحَبَاه برؤيته وكلامه. وإن لكلامه لذةً تفوق اللذات، وإن في النظر إلى وجهه متعةً لم تخطر بالقلوب ولم تعهدها النفوس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أدعيته التي أخرجها عنه النسائي وغيره: أسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك، وأخرج مسلم وغيره عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل، وفي رواية: فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر يعني إليه ولا أقرَّ لأعينهم.

قالوا: نحب أن يعيذنا ربُّنا من النار، ويُدخِلَنا الجنة، قلت: تحاشى ربنا عن كل عيب وحاشا سائليه أن يخيبوا، فاثبتوا على الإيمان مسلمين، في العبادة مجتهدين، وفي طاعته مجدين، وللآثام والذنوب تاركين، والمعاصي والأوزار كارهين، وعلى الصراط السوي مستقيمين، وعلى ربكم متوكلين، وإياه سائلين منيبين إليه مخبتين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين