من علَّمك الحلم؟

قالوا: ما معنى الحلم؟

قلت: هو الهدوء والتأنّى وضبط النفس عند بواعث الغضب والاستفزاز، وهو الإحجام عن سبِّ اللئام والأنذال تنزُّها، والكف عن الانتقام من الخِساس والأوغاد ترفُّعا، والحلم عن قدرة سهم من السخاء والكرم، ونصيب من السماحة والندى. ولَلحلمُ خير مغبةً ومصيرا، وأحسن عقبى ومآلا، وكنز لا ينفد على البذل والإنفاق، وذخيرة لا يُضرب لها بالإعدام والإملاق، وهو ظل تجلي صفة الرحمن، وصفوة خصال الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، وجُنَّة من مكايد الشيطان، وعصمة من هجمات النفس وطيش الطائشين ورعونة المتهورين الجاهلين.

قالوا: نعت الله تعالى إسماعيل عليه السلام بالحلم "فبشرناه بغلام حليم"، ونسبه في مكان آخر إلى الصبر "وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين"، وأيضًا قال على لسانه: "ستجدني إن شاء الله من الصابرين"، فهل الحلم والصبر يتعاقَبان ويتوالَيان؟

قلت: لا يترادَفان، بل قد يتلازَمان، الصبر معناه الحبس، وهو ثلاثة أنواع: صبر عن المعاصي، وصبر على الطاعات، وصبر على المكاره والمشاق، فإسماعيل عليه السلام ذو حلم مضمومٌ إليه الصبر متوافقَين متناسقَين، وبلغ من صبره أنه رضي بأن يُذبح طاعةً لله تعالى واستسلامًا، صبرٌ يعجز أولو العزم أن يرتقوا إليه ارتقاء، وتزول الجبال الراسيات من إطاقة ما أطاقه، ما أبلَغَه تجلُّدا في غير جزع ولا أسى، وما أسماه إذعانا وانقيادا. وحلمُه هو تأنِّيه وقصدُ هديه إذ يفشل ذوو الرزانة والوقار، ويخفق أهل العزيمة والتثبت إخفاقا، وهل يملك أحد نفسَه إذا قال له أبوه إني أرى في المنام أني أذبحك؟ هذه كلمة تُغْري الهادئين إغراء، وتُهَيِّج النفوس المطمئنة تهييجا، وتسلُبهم معانيَ البر والإطاعة، ثائرين باغين، وهل شهدت السماوات والأرضون سمتا نقيا يشبهه، وتؤدة طاهرة عفيفة تماثله براءة وعلوا.

قالوا: وهل وُصف غير إسماعيل بالحلم في القرآن الكريم؟

قلت: نعم، ومن ينسى إبراهيم الخليل أفضل العالمين حلما ووقارا؟ وما أوقع طائرَه وما أهدأ فورَه! لما أرسل الله الملائكة بالعذاب إلى قوم لوط، وقد جاؤوا إبراهيم بالبشرى، قال: ما خطبكم أيها المرسلون، قالوا أرسلنا إلى قوم مجرمين، فجادل ربه أن يرفع عنهم العذاب أو يؤجله تأجيلا، قال:" إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جا أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود"، فأبْلِغ به حلما ورزانة ورجاحةَ عقل وسكينة، انظروا إلى الفارق البعيد والبون الشاسع بينه وبين المسلمين في زماننا الحريصين على عذاب أعدائهم مستعجلين استعجالا، وداعين عليهم بالهلاك والدمار لاعنين إياهم لعنا، كان قوم لوط يعملون السيئات، مستوجبين العذاب، ولما جاءهم جادل إبراهيم ربه، ضابطا نفسه عن الغضب في وقت يستشيط فيه العقلاء غضبا في حنق واهتياج.

قالوا: نصادف فيك من سمات الحلم وثبات الوطأة ووزن الرأي، فلا تستثيرك الحفائظ ولا يغيظك ما يغيظ غيرك، قلت: لست حليما، ولكني أتكلف الحلم والأناة، والتؤدة والثبات، وقد تضطرم في نار الغضب فيغرُب عني الحلم ويُجانبني مجانبة، ثم سرعان ما أندم وأتوب وأعزم على التحلم، وهكذا حياتي متصارعة بين الحلم والغليان، والأناة والثوران، وأفضل الحلم ما كان كالطبع في نفس صاحبه.

?قالوا: من اتخذت أسوة لك في الحلم؟

قلت: أسوتي فيه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما وخلق من السلف.

قالوا: اذكر لنا من شيوخك من اعتمدتَه حليما واستفدتَ منه قصد الهدي وخفض الجأش، قلت: هو شيخنا العلامة الشريف محمد الرابع الحسني الندوي كريم الخليقة، سمح السجية، مهذب الأخلاق، مقوم الشيم، أفضل من تأدَّبت عليه حلما وبعد أناة، قالوا: اذكر لنا أهم معالم حلمه، قلت: هي ثلاث:

الأولى: حلمه عند بواعث الغضب، فقد شهدناه أكمل الناس سكون ريح وهدوء فور، لا تهيجه المهيجات ولا تُلهبه مواقف الإغاظة والإثارة، لم نعاينه خلال تدريسه لنا في دار العلوم لندوة العلماء سخط علينا قط غضبا أو احتدادا رغم تكاثر الدواعي والحوافز، كان مثقلا بأعباء مسئوليات إدارية مختلفة في دار العلوم لندوة العلماء، فكان يتأخر أحيانا في تشريفه في حصتنا، وكنا كثيرا ما نستغل تأخره فنذهب إلى مقصف دار العلوم نتناول الشاي، فإذا طالب يتبعنا أن الشيخ ينتظركم في الفصل، فنرجع وهو جالس وحده، فيبدأ تقرير الدرس علينا من دون أن يبدي استياءا أو كراهية، ومرة طلبنا إلى غرفته، فقال: إن المقرر من مادته التدريسية لم يكمل والخطأ في ذلك منه ومنا جميعا، فلم يعتب علينا بل أشرك نفسه في اللائمة والعذل. وسبَّه مرة بعض الكبار بأبشع كلمة فرفع نفسه عن الاحتدام غير متوغِّر صدره ولا ناقمة نفسه.

قالوا: ما هي الثانية؟ قلت:

الثانية: حلمه عند الفتن، إذ يطيش الناس حاملين ضغائن وإحنا، وسخائم وأحقادا، وتجيش عواطفهم، متجهمين عابسين، مكفهرة وجوههم ومشمئزة نفوسهم، ومن الفتن التي عاصرناها ما نتج عن قضية المسجد البابري في الهند، فوقف منها موقف العاقل الرزين والفَهِم الرصين، الذي تمنعه الرويَّة من الاستعجال، فلم يجرِ وراء النعرات والعواطف، بل تثبَّت تثبت ذوي الحِجى مثابرا على الآداب، ناظرا في مصالح أمته ووطنه، ولما نشبت حرب الخليج كابد من الأسى والتوجع ما الله به عليم، ثم لما تتابعت الزلازل والدواهي وأحيا الناس معالم الفتن، وحلُّوا عِصم الهيج، وتدرَّعوا جلابيب الاضطرابات في العالم العربي والإسلامي، لم نره فيها إلا متثبتا صامدا، صارفا همته إلى ما يطمس به معالم الفتن، ويطفئ نيرانها، ويقص أجنحتها، وتسكنبه الدهماء، وعاضا بنواجذه على ما يحصِّن به نفسه من نوازل المكروه ولواحق المحذور.

قالوا: ما هي الثالثة؟ قلت:

الثالثة حلمه في المحن، فإنه صبور على الأذى، متريِّث في مسيره، ومتمهل في طريقه، وحليم عن الإعراب عن سخطه ومساءته، غير مستثير دفائن الأحقاد ولا مستخرج كمين أضغان الصدور، طوعُ الجناب، لين العريكة، سلس القياد، ترى أصحابه يستمتعون بصحبته، غير ماليه ولا متبرمين به في حضر ولا سفر. وتستشيره في أمورك الخاصة فلا يستعجل، ويشير عليك بما يكون في مصلحتك ناصحا لك، فإن الحلماء لا يشيرون إلا بالخير، والجهال يشيرون بضده، وقد يصمت وصمته أدنى لبعض الرشاد، في حسن تدبير وتجربة، وتمهل، وله مع ذلك مهابة، ولا ينطق حين ينطق ولا يصمت حين يصمت رائضا نفسه إلا ليرد الناس إلى فعل الخير ولزوم العدل، وما أغفلنا رأيه ولا أهملنا مشورته إلا لزمنا من وقوع المكروه بنا وبلوغ المحذورات إلينا ما زادنا لحلمه محبة ولأناته احتراما، وإن العاقل قد يبلغ بتؤدته وحيلته ما لا يبلغ الملوك بالخيل والجنود.

قالوا: هل رأيتموه فرط منه شيء فأخذته الندامة؟ قلت: لا، ما جربنا عليه إفراطا ولا تفريطا ولا مجاوزة للقصد ولا تعديا ولا اشتطاطا، حتى في مواقف استعجل فيها كثير من القادة والرؤساء ماضين غير رابعين على استعداد، ولا معرِّجين على إحكام، فوقعوا في فلتات وتعرضوا لعثرات، وندموا، ولم ينفعهم الندم، وشيخنا فهو الداعي إلى الخير والربح، والمجتنب الشر والخسران لا يلفظ من الكلام إلا ما قد تروَّى فيه وقدَّره، ولا يتكلم عما لا يهمه ولا يسأل عنه، غير قائل ما لم يستيقنه ولم يستوثق منه، ولا مظهرا من الأمر ما يندم عليه وتخشى عواقبه.

قالوا: سمِّ لنا آخر من شيوخك ممن تعلمت منه الحلم؟

قلت: أجيبكم بشرط أن لا تسألوا عن ثالث لهما، قالوا: رضينا، قلت: الثاني هو سَوْغه شيخنا محمد واضح رشيد الندوي، فما أشدهما تشابها وتقاربا في الحلم والتأني، وحسن سمت وقصد هدي، غير طائشَين ولا خفيفَي القياد.

قالوا: فما توصينا؟ قلت: أوصيكم ونفسي بالتأني، وأن لا يستفزكم الغضب، غير متلظين على الناس ولا متلهبين عليهم تلهبا، فإن الغضب أجدر الأشياء مقتا، وأن لا تستعجلوا في اتخاذ رأي أو قرار أو موقف عند الفتن والمحن، واعلموا أن السباحة في الماء مع التمساح تغرير، وأميتوا الأضغان مذهبيها من صدوركم وسلوا السخائم نازعيها من قلوبكم، وتأنوا واسكنوا، باذلين جهدكم في رضا الله عز وجل، فإن الروية والحلم والوقار من باب العقل والشرف، وإن للحلماء فضلا في حلمها أعظم، وحلة لا تخلق جدتها، ولذة لا تصرم مدتها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين