أفضل سؤال


قالوا: نراك دائما رافعا يديك إلى ربك تناجيه وتُسارُّه جاهدا مُلحًّا في غير تبرُّم ولا سآمة، فما أفضل ما سألته؟ قلت: تضرعت إليه مرة في إلحاف وإحفاء سائلا مطلبا يفوق المطالب كلها في علو القدر والقيمة وشرف المنزلة والرتبة، ولا إخالُني دعوتُه لأفضل منه، قالوا: لقد استثرتَ فضولنا، فما الذي ابتهلتَ إليه به؟
قلت: لم أسأله دراهم ودنانير معدودة أو غير معدودة، ولا أموالا طائلة وثروات هائلة، ولا قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، ولا كنوز قارون أن تكون لي،

قالوا: وأنى لمثلك أن يطمع في كنوز قارون راميا بطرفك إليها وفاغرا فاك نحوها وقد عرفتَ عُقباه في كتاب الله تعالى؟

قلت: ما دعوتُ ربي أن يعطيني كنوز قارون، ثم يسلِّطني على نفقتها في سبيله، ولا أن يجعلني جوادا كريما طلق اليدين كحاتم، أو سخيا سمحا ندي الكفين مثل حسن وحسين ابني علي وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم.
ولم أستمنحه منصبا وجاها ولا وساما وجائزة، أو وزارة ورئاسة، مُناطحا مكان آصَف الحكيم، أو سمو رجاء بن حيوة، أو رفعة نظام الملك الطوسي، أو مجد الكاتب ابن العميد والصاحب ابن عباد، أو درجة أياز وأبي الفضل.
ولم أستَجْدِه سلطة ولا إمبراطورية، لا خلافة الأمويين والعباسيين وآل عثمان، ولا سلطنة بني أيوب والمغول، ولا إمرة محمود الغزنوي، أو شهاب الدين الغوري، ولا حكم السلاجقة وأسرة تيمور، بل ولا ملك سليمان بن داود عليهما السلام.
ولم أناشده علو إسناد وغرابة إجازة، ولا أن أحظى بمعمر طاعن في السن أدرك مسندا كبيرا من مسندي عصره كما ظفر محمد وائل بمحمد بن عبد الرزاق الخطيب، أو كما اهتدى محمد زياد إلى عبد الرحمن الحبشي، ولا سماع جزء عال على محدث كبير أو عالم شهير أو شيخ مسند صحبة محمد الرشيد أو فيئ مجد مكي ومحمد بن أبي بكر باذيب، ولا قراءة سريعة كقراءة عبد الله التوم ومحمد زياد ومحمد الشعار، ولا أن أداني أحمد عاشور في حفظ الطرق والنكات الحديثية والغرائب الإسنادية، ولا أن أقارب الشيخين نظام اليعقوبي ومحمد بن ناصر العجمي في سرد الطرائف والنوادر، ولا أن أوتى عقلا واعتدالا مثل ما أوتي عمر النشوقاتي.
ولم أتوسل إليه أن أبلغ مبلغ المزي والذهبي والبرزالي في التاريخ وتقييد السماعات في الجامع المظفري أو المدرسة العمرية أو جامع بني أمية، ولا أن أسمو سمو ابن تيمية في العبقرية والألمعية والذكاء الخارق والفهم الدقيق والبصيرة النافذة والإمامة في الفقه والكلام والإصلاح والجهاد، ولا أن ألحق ابن حجر وابن ناصر الدين في معرفة الأجزاء والدقائق الحديثية، ولا أن أنتهي منتهى حسن البنا وابن باز وأبي الحسن الندوي وابن عثيمين في طهارة القلب والإخلاص والدعوة إلى الله، ولا أن أروم مقام عبد الفتاح أبي غدة في الرقة ولين العريكة وحسن السمت والأدب والأخلاق والفصاحة والبيان.
ولم أرْجُه أن أترقَّى إلى ذُرَى إبراهيم النخعي وأبي حنيفة في الفقه، أو شعبة ومالك في الضبط والإتقان والتوقي والحذر، أو محمد والشافعي في الأصول والخلاف والجدل، أو ابن مهدي وابن حنبل في رفع شعار السنة، أو أتوقَّل إلى عُلا يحيى بن معين في معرفة الرجال، وعلي بن المديني والبخاري والرازيين والدارقطني في العلل.
ولم أتضرع إليه أن أدرك شَأو سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في الاستقامة، وحسن البصرة في التنسك وفقه النفس، وابن سيرين في الورع، وأيوب السختياني في التواضع وحب النبي صلى الله عليه وسلم، وسفيان الثوري في الحفظ والخوف وذكر الموت وسائر الفضائل، ومحمد إسماعيل الشهيد ورشيد أحمد الكنكوهي في نشر السنة وقمع المحدثات والبدع.
قالوا: لقد بعثتنا على العجب والدهشة، أفليس الذين سردت أسماءهم أسوتَك في العلم والمعرفة والصلاح والتقوى، تطأ مواطئ سيرتهم وتتسيَّم بسيماهم؟ أو ليسوا أحبتك وذوي خلتك تفاخر بهم مشيدا بمناقبهم ومساعيهم؟ قلت: بلى، قالوا: ما لك منحرفًا عنهم كل هذا الانحراف، زاعما تمني مكان فوق ما وصلوا إليه، وأنت المنكر على المتصوفة شطحاتهم ودعاويهم؟ لم نحسب أن تُرهقنا كل هذا العنت بسؤالنا إياك سؤالا بسيطا ورجائنا إياك رجاءا قريبا، يا ليتك أخبرتَنا بما سألتَ ربك في كلمة وجيزة مقتضبة، فلم نتعنَّ هذا العناء، ولم نتجشم من المشقة ما تجشمنا، قلت: لم يحملني على الإسهاب والإفاضة إلا صرفُ عنايتكم إلى تقدير شرف دعوتي وقيمتها، قالوا: قد أدركتَ مرادك وأصبتَ غرضك، فأفِدنا غير مُسرف في القول ولا مُغرق إغراقا.
قلت: ادنوا مني أناجِكم واقتربوا إلي أُسارَّكم، سألته أن يرضاني عبدا له، يحييني عابدا ويميتني عابدا، ويزيدني عبادة فوق عبادة، ولا يحررني من ربقة عبوديته، ولا يعتقني من حبل رقه، فإن عبوديته أفضل وأرفع وأعلى من كافة أنواع الحرية والانعتاق ألف ألف مرة.
اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، رضيت بك ربا رحيما ودودا، وبنفسي عبدا لك ذليلا عانيا مطيعا، معفِّرا خدي أمامك وممرِّغا أنفي، اللهم إني لا أعدل بعبوديتك لذة، ولا أبغي عنها بدلا ولا مكانا، اللهم فلا تحررني منها ولا تطردني من عتبتك، اللهم لا ملجأ لي ولا منجى منك إلا إليك، اللهم إنك سميع مجيب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين