نسُوا اللهَ فنسِيّهم ..

النِّسْيَانُ : تَرْكُ الإنسانِ ضَبطَ ما استُودِعَ ، إمَّا لضَعْفِ قلبِهِ ، وإمَّا عن غفْلةٍ ، وإمَّا عن قصْدٍ ، حتّى يَنْحَذِفَ عن القلبِ ذِكْرُهُ ، يقال : نَسِيتُهُ نِسْيَاناً .

وكلّ نسْيانٍ من الإنسان ذَمَّه اللّهُ تعالى به فهو ما كان أصلُه عن تعمُّدٍ . وما عُذِرَ فيه نحو ما رُوِيَ عن النبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلّم : « رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ » فهو ما لم يكنْ سَبَبُهُ منه ( أي من التعمّد ) . 

وقوله تعالى : {فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ } [السجدة /144] هو ما كان سببُهُ عن تَعَمُّدٍ منهم ، وترْكُهُ ( سبحانه ) على طريقِ الإِهَانةِ ، وإذا نُسِبَ ذلك إلى اللّه فهو تَرْكُهُ إيّاهم استِهَانَةً بهم ، ومُجازاة لِما تركوه . قال تعالى : {فَاليَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا }[الأعراف/ 51] ، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }[التوبة/ 67] . 

وقوله : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ } [الحشر / 199] فتنبيه أنّ الإنسان بمعرفته بنفسه يعرف اللَّهَ ، فنسيانُهُ للّه هو من نسيانه نَفْسَهُ . 

وقوله تعالى : {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ } [الكهف / 244] . قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : « إذا قلتَ شيئاً ولم تقل إن شاء اللَّه فَقُلْهُ إذا تذكَّرْتَه » ، وبهذا أجاز الاستثناءَ بعد مُدَّة ، قال عكرمة : معنى « نَسِيتَ » : « ارْتَكَبْتَ ذَنْباً ، ومعناه ، اذْكُرِ اللّهَ إذا أردتَ وقصدتَ ارتكابَ ذَنْبٍ يكنْ ذلك دافعاً لك » ، والآية عامّة في منطوقها ومفهومها ، تدلّ على أنّ علاج النسيان هو الذكر ، بمفهومه العامّ وحقيقته .

والنِّسْيُ أصله ما يُنْسَى كالنِّقْضِ لما يُنْقَض ، وصار في التّعارف اسماً لما يَقِلُّ الاعْتِدَادُ به ، ومن هذا تقول العرب : « احفظوا أنساءكم » . أي : ما من شأنه أن يُنْسَى . المفردات للراغب الأصفهاني ص (803) . 

وممّا سبق يتبيّن لنا أنّ النسيان في كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه : 

الوجه الأوّل : نسيان فطريّ ، يعود إلى ضعف الإنسان الذي لا تنفكّ عنه طبيعته . وهو ما عبّر عنه الراغب : « لضَعْفِ قلبِهِ » ، وهو ممّا لا يُؤاخَذُ به الإنسان بفضل الله ورحمته ، ومنه نسيان آدم عليه السلام ، قال تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }[طه: 115] . 

والوجه الثاني : نسيان الغَفلة وغلبة الهوى . وهو ما سمّاه الله تعالى: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً}[النساء:17] ، ويخشى على هذا النوع أن تتمادى به الغَفلة وغلبة الهوى حتّى ينقلب إلى النوع الثالث . 

والوجه الثالث : نسيان التعمّد والإعراض ، واتّخاذ منهجٍ غير منهج الله . ومنه قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُون * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُون * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُون * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُون}[الأنفال:20 ــ 23] . وقد وصف الله هؤلاء بقوله : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُون}[البقرة:18] ، وجزاؤهم ما قاله الله سبحانه : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124] . 

فأنت على المنهج وصراط الحقّ ؛ عندما يكون نسيانك فطرة تشفع لضعفك ، أو غَفلة تنمّ عن ضعف النفس وغلبة الهوى ، ولكنّك بها على سبيل من العفو والمغفرة ، ما لم يذهب بك هوى النفس إلى الإصرار على المعصية ، والاستكبار عن الحقّ ، وعندها تدخل في باب نسيان الإعراض ، المستحقّ لأشدّ الوعيد ، وهو شأن الكافرين المستكبرين .. ولا تنس أنّ هذا النوع هو المنهج الذي اختاره إبليس ، يوم : {... أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِين} [البقرة:34] ، فكان ملعوناً إلى يوم الدين .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين