شقاق الإخوة المؤمنين

?قالوا: قد غلا عصرنا بفتن دهماء كقطع الليل المظلم، هائجة مائجة كأمواج البحر المحيط القاتم، استغلقت بها أمورُنا استغلاقا، وغُمَّت علينا مراشدها، واستعجمت استعجاما، لا نهتدي سبيلا، ولا نستنير طريقا فماذا نفعل؟ قلت: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولا أراني فيها أهدى منكم ولا أشد بصيرة ونباهة، فهي من الفتن التي تدع الحليم حيران، والعاقل معتوها، والعالم جاهلا، والمؤمن مسلوب الإرادة والاستقامة، كرَّت علينا مآزقُ لا يوسى كلمُها ولا يرفع وهيُها، وشرُّ ما رام امرؤٌ ما لم ينل.

قالوا: ومما زاد الطين بلة أنها شقَّت عصا المؤمنين، ذاهبين شذر مذر، وفرقتهم طرائق ومزقتهم خرائق، متخاصمة ومتجادلة طورا ومتحاربة ومتقاتلة طورا آخر، بل وحار علماؤنا يضلل بعضهم بعضا متلاعنين متطاعنين بالكفر والبدعة والفسق.

قلت: يا لشقاء عصائب أصيبت في سادتها وكبرائها، ويا لبؤس حشود رزئت في أئمتها وحلمائها! أحرِ بعيونكم أن تبكي دموعا ودماء، وأخلق بقلوبكم أن لا تُحوَّل مخاوفها أمنا.

?قالوا: اجمع لنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصائح وحِكَما مقوِّمة آراءنا، مسدِّدة خطانا، ومثبِّتتة أفئدتنا تهدينا إلى الصراط المستقيم، وتلُم شعثنا وترأب صدعنا، وترقع الخرق وترتق الفتق، قلت: أوجِّهكم إلى أربع خصال:

?الأولى: أن تخبتوا إلى ربكم منيبين إليه حنفاء مسلمين، وتحافظوا على صلواتكم ومن الليل فتهجدوا به، واذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم، واجتنبوا ذنوبا لكم موبقات ولدينكم حالقات، وكونوا من الصبارين، موعظةَ الله في كتابه لاتقاء الفتن، وسنةَ الأنبياء والمرسلين وسائر الصالحين، إن الإخبات إلى الله تعالى تعوذ به واستئجار، وتحصن به واحتماء، واعلموا أن الإخبات والعصمة من الفتن توأمان وإلفان متآلفان لا يفترقان، إن وجد الإخبات وجد الآخر، وإن عدم الإخبات عدمت العصمة.

?قالوا: هات الثانية: قلت:

?الثانية: أن لا تضلوا الحقائق التي أجرى الله سننه عليها، فليست أقوامكم هي التي تتواصلون معها عبر الشاشات أو الصحف أو الشبكات العنكبوتية، أو الهواتف الجوالة الحمالة النقالة، دعُوا عالم الأوهام والظنون منتبهين من رقادكم مرعوين عن غفلتكم، وتبينوا أنكم أفراد من أقوامكم التي تعيشون بين أظهرها تشاركونها أفراحها وآلامها، وكل واحد منكم رسول الله إلى قومه نذيرا لهم بشيرا، فاسعوا لوقايتهم من النار، ودعوتهم إلى عبادة الله وحده، وإصلاحهم من الفساد، لا تهاجروهم جسديا ولا فكريا، ولا تعتزلوهم ظاهرا ولا باطنا، وقد أنكر الله على سيدنا وحبيبنا يونس عليه السلام لما استعجل مفارقا لهم جافيا، وخالطوا الذين حولكم متعاونين في همومهم وأشجانهم، وانصروهم ظالمين ومظلومين.

?الثالثة: أن المسلمين على تنائي ديارهم واختلاف لغاتهم وألوانهم وتباين مذاهبهم أمة واحدة، فإذا بلغكم شيء من نوائبهم وخطوبهم ومحنهم فليؤلمكم وليفجعكم، متعذِّبين على النوازل متوجِّعين على الكُرَب، مداوين الأسقام، وحاسمين الأدواء، وأغيثوهم وأسعفوهم غير باغين على قوانين الدول التي تعيشون فيها ولا متمردين على الأعراف الدولية، ولا تشغلنكم هموم الناس عن الخصلتين الأوليين، مستحضرين كيف أن زكريا ومريم ويحيى وعيسى عليهم السلام عبدوا ربهم قانتين وسعوا لإصلاح قومهم من غير ثورة على الدولة الرومية الوثنية التي عاشوها ولا خروج على قوانينها، وتذكروا قول الله عز وجل (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).

?الرابعة: أن تسعوا لتوحيد كلمة المسلمين، وكونوا عباد الله إخوانا غير متخاذلين ولا متباغضين ولا متحاقدين ولا متحاسدين، فإذا رأيتم رأيا ورأى أخوكم رأيا غيره، فليكن اختلافكم في أدب وتواضع متجنبين العنف في المحاورة ومتوقين السفه والطيش، غير مرغمي الناس على رأيكم وتدبيركم، وضحُّوا باجتهاداتكم الشخصية احتراما لمصالح المسلمين الاجتماعية، وتحدثوا فيما بينكم عما اتفقتم عليه، وأعرضوا عما اختلفتم فيه، وسُدوا الثلم، وأقيموا الأود، وسووا الزيغ.

?قالوا: أو لايجب علينا نصرة إخواننا المجاهدين؟

قلت: انصروهم مادام جهادهم في سبيل الله، وإذا رأيتم القتال يؤدي إلى تأليب المسلمين بعضهم على بعض والتقاتل بينهم، فاصدفوا عنه فإنه فتنة، وشعار الجهاد نصرة الحق إرضاء لله عز وجل، وشِيَة الفتنة نصرة الباطل وإهراق الدماء وهتك الأعراض وهدر الأموال والفساد في الأرض، قيل لإبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: أين كنت يوم الزاوية؟ قال: في بيتي، قالوا: فأين كنت يوم الجماجم؟ قال: في بيتي. قالوا: فإن علقمة شهد صفين مع علي، فقال: بخ بخ، من لنا مثل علي بن أبي طالب ورجاله. وليحذر علماؤُكم من معاداة الملوك والأمراء أومؤازرتهم أشد الحذر.

?قالوا: كيف نكتِّم أفواهنا وقد نرى نفاقا بينا وضلالا واضحا؟

قلت: كل سعي منكم يزيد المسلمين فرقة وانشقاقا فليس بإصلاح، وإنما هو فساد، فاحذروا قوما سادرين في الغي متمادين في الجهل ضاربين في العشواء منهمكين في الغلواء، ودعوهم وما هم عليه من سوء السيرة وقبح الطريقة، ولا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بمن اتقى.

?قالوا: نجلس مع إخواننا فتثار أسئلة فنخوض فيها وقد يحتد النقاش احتدادا، قلت: لا تخوضوا فيها، ولا تكونوا على منهج المتكلمين، وكونوا على سيرة أهل السنة، فالمتكلمون أهل كلام وجدال وخوض فيما لا يصلح قلوبهم، ولا ينفع المسلمين في دينهم أو دنياهم، بل يضرهم ويفرق أمرهم تفريقا، وأهل السنة أهل عمل وصلاح مستنين بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم مستنهجين سبيله مقتفين معالمه، رحماء بينهم، ذوو لين وتؤدة، وحلم ووقار وهدوء، وثبات وطأة وبعد أناة، والزموا السكوت في الهرج والمرج فإن فيه النجاة والسلامة، وتجنبوا الكلام الفارغ الطائش فإن عاقبته الندامة، والسكوت أحسن من الإفك والهذر، وأصلح من أن يتناول المرء ما لا يعنيه، وسرعان ما تتحسرون على منطق غير صادر عن حصافة ورشد وسداد.

?قالوا: قد يغلبنا الفتور والرهق، وتأخذنا السآمة والملالة فلا بد لنا من الحديث ما ينشطنا، قلت: تحدثوا مع أهليكم وإخوانكم الصالحين، وتذاكروا الشعر وملح الأخبار والنوادر، قالوا: نريد أكثر من ذلك. قلت: لا أُحْسِن إلا ما قلت، وأنهاكم عن غيره أشد النهي، وأكرهوا أنفسكم على الفضائل واهجروا الرجز والرذائل:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على=حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

?قلت: عليكم بهذه الخصال متمسكين بها، فإذا تحققت فيكم لم يضركم شيء ولم يحزنكم ما تجري به المقادير، ولم تدهشوا عند مكروه، قالوا: قد استعذبنا كلامَك وحسُن موقعُه في قلوبنا فقد قوَّمْتنا بلسانك وأدَّبتنا بحكمتك وأظهرتَ الحجة اللازمة لنرتدع عما نحن عليه من الاعواجاج والتسارع إلى الفتن، فادع لنا بالتوفيق، قلت: اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمورنا، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، وارحمنا وأنت أرحم الراحمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين