هدي المصطفى في التعامل مع المشكلات

مقدمة:

كان الهدي النبوي والأسلوب الحكيم يمثّل أعظم صورة في مواجهة المشكلات في حادثة قسمة غنائم يوم حنين، حيث تجلّت المصارحة والمناصحة والمعاتبة والحكمة في التعامل مع أطرافها وتفاصيلها مما يؤكد علينا أن نقف ونتأمل ملياً في دروسها.

واليوم نستعرض معكم منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المشكلات، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما أصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغنائمَ يوم حنين، وقسم للمتألّفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، فوجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي والله رسولُ الله قومَه! فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله! إنّ هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، فقال: (فيم) !؟ قال: فيم كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني)، فخرج سعد فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة، فجاء رجل من المهاجرين فأذن له، فدخلوا وجاء آخرون فردّهم حتى إذا لم يبق من الأنصار أحدٌ إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، حيث أمرتني أن أجمهم، فخرج رسول الله فقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضُلّالاً فهداكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟ وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟)، قالوا: بلى، ثم قال رسول الله: (ألا تجيبون يا معشر الأنصار!؟) قالوا: وماذا نقول يا رسول الله، وبماذا نجيبك؟ المنّ لله ولرسوله، قال: (والله لو شئتم لقلتم فصَدقتم وصُدِّقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمنّاك، ومخذولاً فنصرناك)، فقالوا: المنّ لله ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألّفتُ بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم!؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار)، فبكى القوم حتى اخضلّت لحاهم، وقالوا: رضينا بالله رباً وبرسول الله قسّماً، ثم انصرف وتفرقوا. [ 1 ]

هذه حادثة وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه من الأنصار، ولنا معها وقفات نستخلص فيها منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المشكلات بين المحبين.

أولاً: لا بد أن نعي خطر الشيطان على القلوب، فهؤلاء النفر من الأنصار رغم ما بذلوا وقدّموا للإسلام إلا أن الشيطان كاد أن ينفث شيئاً من سمومه في قلوبهم حتى استخلصها رسول الله بهديه القويم وأسلوبه الحكيم، والشيطان حريص جداً على إفساد علاقات المحبة والأخوة، لذا قال صلى الله عليه وسلم محذّراً: (إنّ الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم). [ 2 ]

ثانياً: مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم ومسارعته إلى حل المشكلة، فما إن سمع بالخبر حتى ذهب سارع في القوم فجمعهم وسمعهم وخطبهم، وأنهى بحكمته وحنكته هذا الأمر الطارئ، ولو أنه تأخر أو استهان به وتركه، لربما كان هذا الموقف من الأنصار رضي الله عنهم سبباً يتعلق به الشيطان، ومدخلاً له ليلقي حباله ويُحكم لعبته، إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سارع إلى إخماد نار الفتنة في مهدها قبل تعاظمها؛ وكثيرٌ من المربين لا ينتبهون إلى مدى أهمية المسارعة في حل المشكلات وإخماد نارها وتقريب النفوس وتهذيبها، حتى لا تكون ككرة الثلج تكبر يوماً فيوماً حتى تنفجر المشكلة أو يستعصي حلُّها وعلاجها؛ إنّ هذه الخلافات التي تبدو لأول وهلة صغيرة فإن فيها من أسباب النمو ما هو كفيلٌ بأن يجعلها دماراً وخراباً لكل ما بناه الإنسان في سنين.

ثالثاً: الرفق والحلم مع القدرة: سعة صدر النبي صلى الله عليه وسلم وتحمّله للنقد الموجه له، يقولون: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشاً ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم! فلم يرتفع صوته أو يحمر وجهه، ولم يرتب أحكاماً ومواقف على هؤلاء المتكلمين، فيتعامل معهم معاملة جديدة وفق هذه المعطيات، فيهجرهم مثلاً او يقاطعهم بحجة أنهم لا يحترمون القيادة، ولا يوقّرون رسولهم، ولا يقدّرون فضائل من ضحى من أجلهم، كلا، لم يفعل شيئاً من ذلك، بل ذهب إليهم وطرح عليهم أسئلة حكيمة، ثم مدحهم، وأثنى عليهم ثناءً ومدحاً فوق المستوى الذي يتوقعونه، لم يكن أحد منهم يتوقع هذا المدح والثناء، فلم يستطيعوا أن يوقفوا تدفّق دموعهم.

إنّ بعض المربين يستطيع أن يستميل قلوب من تحت يده لو رآهم أخطؤوا بموعظة بليغة توجل منها القلوب، وتذرف منها الدموع، لكن بعض الناس يغلبه طبعه فيرى أنّ كبرياءه قد جُرح، فيردّ بما يشفي حظ نفسه فيكون ذلك سبباً في تطاول غيره عليه وتأجج القلوب تجاهه.

إنّ الرفق بالمخطئ أمر مهم جداً إذ إنّ القسوة على من يحبك في غير محلها يوغر صدره، كما أنّ الحلم على المنظور البعيد أفضل نتاجاً من الغضب والعقاب السريع الذي يكون نتاج فورة غضبٍ.

فلا بد أن نتربى على الحلم في المواقف والهدوء عند وقوع الأخطاء حتى نستطيع إزالة ما وقع منها إلى الأبد.

رابعاً: أمر رسول الله أن يجتمع الأنصار في مكان واحد ولم يدع معهم أحداً، فهذا الأسلوب من الأساليب التربوية الناجحة لمعالجة الخطأ، حتى يكون هناك مجال واسع لفتح الحوار والمناقشة بدون وجود أطراف أخرى قد تتسبب في تأزم الموقف؛ وبعض الآباء لو وقع خطأ بسيط من أحد أفراد الأسرة ناقش ذلك أمام الجميع مما يكون سبباً في إحراج المخطئ أو عناده أو تشعّب الموضوع.

خامساً: استخدام الرسول عليه الصلاة والسلام أسلوب استرجاع الذاكرة وتذكر الفضائل قبل الحكم على الموقف الحاضر، والموازنة بين الأمرين، فذكر فضله عليهم (ألم آتكم ضُلّالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله ربي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي) حينئذ تذكروا فضله عليهم فهتفوا قائلين: بلى، لله ولرسوله المن والفضل، بل إنه استحضر فضلهم ودورهم في نصرة رسول الله ودين الله، فقال لهم في نفس السياق: (والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدّقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمنّاك، ومخذولاً فنصرناك).

ومن ذلك يجب أن يستفيد المربون من هذه الجانب وهو عدم اتخاذ موقف شديد القسوة تجاه شخص دون النظر إلى المحاسن السابقة.

سادساً: من الضرورة الملحة تفسير وتوضيح سبب إعطائه عليه الصلاة والسلام لأهل مكة، فقد فسر سبب ذلك لهم حين قال: (أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم من أجل لعاعة من الدنيا تالّفت بها قوماً ليسلموا!)، فإذاً السبب ليس القرابة وإنما كان ذلك من صلب مهام الدعوة وهو تألّف قلوبهم للإسلام.

وبذلك استطاع عليه الصلاة والسلام أن يزيل الغشاوة عن النفوس التي حاول الشيطان أن يستثمرها، وكذلك المربي يجب أن يوضح ويعلل كل عمل يعتقد أنه غمض على من حوله، وذلك ليقطع طريق الشيطان إلى نفوسهم.

سابعاً: الصراحة والوضوح: لقد كان سعد بن عبادة صريحاً وواضحاً في خطابه مع النبي صلى الله عليه وسلم، فها هو يقول له: يا رسول الله إنّ هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.

وما أجمل وضوح سعد بن عبادة وشفافية رده صلى الله عليه وسلم عندما سأله: (فأين أنت من ذلك يا سعد؟) فقال: يا رسول الله إنما انا رجلٌ من قومي، أي أن قولهم ورأيهم هو قولي ورأيي، لم يكن سعدٌ متكلفاً أو مجاملاً أو متلوناً، أو ينقل الخبر لأجل الشر معاذ الله.. بل من أجل إيجاد جواب شافٍ يحلّ المشكلة.

ومن ذلك كله ينبغي أن نعي أن مسألة حب المال مرتبطة بفطرة البشر في حب المال والعطاء، فلا أحد يرضى أن يكون فقيراً أو معدوماً لو كان الأمر بخياره ويده، وهنا يأتي دور الإيمان واليقين والتسليم والاحتساب، يأتي دور المربي كي يبني بنيان الإسلام في قلب من حوله، حتى لا يبقى في قلبه سوى حب الله ورسوله، وما أعده الله للصابرين الذي آثروا الله على حظ النفس راجين جنة عرضها السماوات والأرض.

وهذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم فقد أعلنها واضحةً جلية: إنّ قضيتهم ليست مرتبطة بلعاعة الدنيا وحقارتها، وإنما مرتبطة باتباع هديه ونصرة دينه، وإعلاء كلمة الله، فليذهب الناس بالشاء والبعير، فأعظمُ المصيبة والبلاء أن يذهب المرء ومعه حظوظ الدنيا وهو خالي الوفاض من دينه.

لذا كان أعظمُ ما يسلّيهم ويؤنِسُهم أن قال لهم صلى الله عليه وسلم: (أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم!؟)

1 - حديث صحيح أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد:32/10

2 - صحيح مسلم:2812

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين