ريح يوسف

كنا مجموعة من الصبية جلوسا في حضرة عم "علي" الذي بلغ من العمر أرذله ، فاستفزه أحدنا بسؤال:

عم "علي"؛ لو عثرت على مصباح علاء الدين وفركته وطلع لك الجن وقال لك: شبيك لبيك عبدك وملك إيديك .. تمنَّ واطلب يا عم "علي"، فماذا تطلب منه.؟

جاء رد عم "علي" ساحقا ماحقا ، وقال: سأقول له ، بقى يا ابن .. سايبني العمر ده كله وطالع لي الآن وأنا باقي لي خطوة على القبر .. ارجع لفانوسك يا ابن ...!

كبرنا نحن الصبية وصرنا شباباً وصار منا صديق ظريف لطيف يحب تمثيل دور البطولة الوطنية، أراد أن يمثل أمامي دوره المحبوب فقال لي: (نفسي أقوم من النوم أجد بلدنا أحسن بلد.)!

فقلت له: ما كل هذه الوطنية يا فتى ؟! ، المهم بلدك تتحول لأحسن بلد .. (وأنت نايم).!!

طافت أمامي هاتان الصورتان وأنا أشاهد الخطبة العصماء لمارتن لوثر كنج (I have a dream) (لدي حلم).

قالها منتصف الستينيات (فقط من خمسين عاما) يوم كان السود في أمريكا منفيين منبوذين في وطنهم يعانون التميز والظلم على يد الرجل الأبيض ، لم يكن حُلُمه وهما يُخدِر به المقهورين ، بل كان إنذارا وتهديدا ووعيداً: (لن يكون هناك سكون ولا راحة في أمريكا حتي يُمنح الرجل الأسود حقوق المواطن . وسوف تستمر زوبعة الثورة في هز قواعد الدولة إلى أن يأتي يوم مشرق يبرغ فيه العدل.)

لم يكن حلماً أطلقه في الهواء ؛ بل كان منهجاً وخطة وطريقا: (يجب علينا في سبيل حصولنا على حقوقنا الشرعية ألا نرتكب أفعالا غير شرعية، دعونا ألا نبحث عن ما يطفيء ظمأنا للحرية بالشرب من كأس المرارة والكراهية.)

يرسم علاقته ببني وطنه: (إن روح النضال لا يجب أن تقودنا للارتياب في جميع البيض، فبعضهم معنا هنا لأنهم أدركوا أن قدرهم مقيد بقدرنا، وحريتهم هي رابط لا يقبل الانفصال عن حريتنا، نحن لا يمكننا أن نمضي وحدنا.)...

وهكذا الناس .. منهم عاجزون حتى عن الحلم يعيشون أمواتاً على قيد الحياة ، ومنهم غارقون في الأوهام يدورون حول أنفسهم دورة عبثية . منهم من لا تتجاوز أحلامهم حدود ذواتهم ومعايشهم ، ومنهم من تتسع أحلامهم لأسرتهم وعائلتهم ....

ومنهم من تتجاوز أحلامهم حدود الزمان والمكان ، والجنس والعشيرة ، لتنطلق في آفاق الإنسانية الرحبة وقيمها السامية .

تنبت أحلامهم من رحم المعاناة ، معاناة صعاب الواقع وعقبات الطريق ، معاناة حرقة قلب يتمزق ألما على إهدار الكرامة الإنسانية ، معاناة توتر الأعصاب والفكر بحثاً عن مخرج .

معاناة حمل حُلُم ينسي معه صاحبه مصالحه ومنافعه وراحته .

هؤلاء هم الأحياء على الحقيقة ، وهؤلاء هم المستهدفون من أعداء الإنسانية في كل زمان ومكان.

انتهت حياة "مارتن لوثر كنج" بطلقة من متعصب أبيض ومات قبل أن يكتمل حلمه الذي تحقق فيما بعد.

وما "مارتن لوثر" إلا نموذج له آلاف الأمثال في أوطاننا ، منهم من قضى نحبه، ومنهم من غيّبته السجون ، ومنهم من احتضنته ديار ومخيمات المنافي ، ومنهم من يخط في بلاده طريقاً وعراً.

ولهؤلاء الذين تتقاذفهم الأحداث بين يأس ورجاء .. لهؤلاء الذين يمسكون بالحلم حيناً ويفلت منهم أحيانا .. لهؤلاء الذين لم يفارقهم الشوق لتنسم عبير الحرية :

(... اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ? إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين