القراءة إمتاع ومؤانسة

إذا أدمنت القراءة سيصبح الكِتاب هواءَك العَليل، ونسيمَك الرَّقيق، ومُتَنفَّسَك المُنْعِش اللَّطيف، وخَلْوتَك وصَفوك ووُدَّك، وراحتك وسعادتك، وأمانك وسلامك، وراحلتك ومركب سِياحتِك في البرِّ والبحر، وأنيسَ وحدتك ووطنك عند اغترابك، وأليفَك المٌلازِم المُنافِح، وصديقَك الأمين الصَّادِق، ومُكْرِمك السَّخِيَّ المِعْطاء، المتفضِّل عليك بالخيرات، الجالِب للمنافِع الدَّافِع للمَضار، والمُتحَلِّي بالمحاسِن والفضائِل والخِلال، ونزهة روحك واسْتِجمامك في الليل والنهار، وجَليسك المُحِب الذي يحتويكَ بتفاصيلك وأجزائك، ويصِلُك بالتَّآلُف والتَّعاوُن والتَّقارُب محَلَّ التَّجافي والتَّناكُر والتَّباعُد، ورفيقك الصَّالح، وخَدينك النَّاصِح، وصديقك الحميم المخلص لصحبتك ومودَّتك، الذي لا يخونُك في سرك وعلانيتك، ولا يخذلُك عند شدَّتك، ولا يصدُّ عنك أو يجافيك عند ضعفك وانكسارك، ولا تَفْتقِدُه في موطن إِعْسار أو ضيق، ويكفيك حاجاتك ومؤونتك، وتستغني بوجوده وأحاديثه عن أحاديث المُداهنين، وتحَذْلق المتصنِّعين، وخِداع المنافقين والماكرين، ويُمْتِعُك بمؤانسَتِه ويَسُرُّك بمَجامِع مَحامِدِه، ويصرِفُك عن جليس السوء وفضول الكلام وعواره، ويشغلُك النَّظَر في فوائِده والتفكير في مقاصده، والإبحار في محيطاته، والغوص في أعماقه، وإِحْراز السَّبق في التقاط دُررِه وجمع جواهره، عن النَّظر والتَّفكير فيما ليس من ورائِه نفع ولا طائِل، ويسمو بك عن التَّلبُّس بالألفاظ السَّاقطة والمعاني الفاسدة، ويَقيك من مخالطَة ذوي الأخلاق الرديئة والاتِّصاف بصفاتهم الذَّميمَة ..

وقديما أهدى بعض الكُتَّاب إلى صديق له دفتراً وكتب معه: «هديتي هذه، أعزَّكَ الله، تَزْكو على الإِنْفاق، وتَرْبو على الكَد، لا تُفْسِدُها العَواري، ولا تَخْلقها كثرة التَّقْليب، وهي إِنْسٌ في اللَّيل والنَّهار، والسَّفَر والحضَر تصلُح للدُّنيا والآخرة، تُؤْنِس في الخَلْوة وتَمْنَع من الوحدة، مُسامِرٌ مُساعِد، ومُحَدِّثٌ مِطْواع، ونَديم صِدْق» .

وقال بعض الحكماء: «الكُتب بساتين العلماء» ، وقال آخر: «ذهبت المكَارِم إلا من الكُتب» .

وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: «الكتاب نِعْم الذُّخْر والقعدة، والجَليس والعُمْدَة، ونِعْمَ النُّشْرَة ونِعْمَ النُّزْهَة، ونِعْمَ المُشْتغل والحِرفَة، ونِعْمَ الأَنيس ساعةَ الوحدة، ونِعْمَ المعرفة ببلاد الغُربة، ونِعْمَ القَرين والدَّخيل والزَّميل، ونِعْمَ الوزير والنَّزيل. والكتاب وِعاٌء مَليء عِلماً، وظَرْفٌ حُشِيَ ظرفاً، وإناءٌ شُحِن مِزاحاً، إنْ شِئْتَ كان أَعْيا من باقِل، وإنْ شِئْتَ كان أَبْلَغ من سُحْبان وائِل، وإنْ شِئْتَ سَرَّتْكَ نَوادِرُه، وشَجتْكَ مَواعِظُه، ومَنْ لك بواعِظٍ مُلْهٍ، وبناسِكٍ فاتِك، وناطِقٍ أخرس؛ ومَنْ لك بطبيب أعرابي، ورومي هندي، وفارسي يوناني، ونَديمٍ مُولَّد، ونَجيبٍ مُمْتِع؛ ومَنْ لك بشيء يَجْمَع الأوَّل والآخر، والنَّاقص والوافِر، والشَّاهِد والغائب، والرَّفيع والوَضيع، والغَثَّ والسَّمين، والشَّكل وخِلافه، والجِنْس وضِدَّه؛ وبعد فما رأيت بستاناً يحمل في رَدَن، وروضة تنقل في حجر، ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء، ومن لك بمُؤنِس لا ينام إلا بنَوْمِك ولا ينطق إلا بما تهوى، آمَن من الأرض وأَكْتَم للسِّر من صاحِب السِّر، وأَحْفَظ للوديعة من أرباب الوديعة؛ ولا أعلم جاراً آمن، ولا خَليطاً أَنْصَف، ولا رفيقاً أَطْوَع، ولا معلماً أَخْضَع، ولا صاحباً أَظْهَر كِفاية وعِناية، ولا أَقلَّ إملالاً وإبرامًا، ولا أَبْعَد من مِراء، ولا أَتْرَك لشَغَب، ولا أَزْهَد في جِدال، ولا أَكفَّ في قِتال من كِتاب، ولا أَعمَّ بيانًا، ولا أَحْسَن مُؤاتاة، ولا أَعْجَل مكافأةً، ولا شجرة أَطْوَل عُمراً، ولا أَطْيَب ثمراً، ولا أَقْرَب مُجْتَنى، ولا أَسْرَع إدراكاً، ولا أَوْجَد في كلِّ إبان من كِتاب. ولا أَعْلَم نِتاجاً في حَداثة سنِّه، وقُرْبِ ميلاده، ورَخصِ ثمنه وإِمْكان وُجودِه، يجمع من السِّيَر العَجيبة، والعُلوم الغريبة، وآثار العُقول الصَّحيحة ومَحْمودِ الأَذْهان اللَّطيفَة، ومن الحِكَم الرَّفيعَة، والمذاهِب القديمة، والتَّجارِب الحَكيمة والأَخْبار عن القرون الماضِيَة، والبلاد النَّازِحَة، والأمثال السَّائِرَة والأمم البائِدَة ما يَجْمعه كتاب .. »

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين