تاريخ فلسطين (الاحتلال الصليبي لها)

 

شهد القرن الرابع الهجري ضعفا في أركان الدولة العباسية بسبب تدخل الأهواء وصعود أفراد لمنصب الخلافة غير مؤهلين لتولي أعبائها ؛ مما ساعد أصحاب الأطماع في تقطيع أوصالها ، كل طامع يحاول أن يظفر بجزء منها ، ثم نشبت بينهم الحروب فتنفس الغرب الصعداء لذلك ، وبدأ تحت ضغط الكنيسة في الاستعداء لغزو الشام التي كانت تعد من أثرى بلدان العالم وقتها ، وفي هذا التوقيت ظهر العبيديون الذي سموا أنفسهم بالفاطميين وانتحلوا أسماء بعض آل البيت فهيمنوا على بلاد المغرب العربي ، ثم استغلوا ضعف العباسيين وعجزهم عن المحافظة على دولتهم فأسرعوا لاحتلال مصر التي استقل بها الإخشيديون من قبل ، ثم سعوا لاحتلال الشام الذي تفرقت بلاده بين الأمراء العرب والسلاجقة فبسطوا أيديهم على الإمارات العربية ، وأما إمارات السلاجقة فلما عجزوا عن اجتياحها استعانوا بالفرنجة الصليبيين عليهم وأطمعوهم في خيرات بلادهم ( يقول ابن كثير : قيل إِنَّ أَصْحَابَ مِصْرَ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، لَمَّا رَأَوْا قُوَّةَ الدَّوْلَةِ السُّلْجُوقِيَّةِ، وَتَمَكُّنَهَا وَاسْتِيلَاءَهَا عَلَى بِلَادِ الشَّامِ إِلَى غَزَّةَ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مِصْرَ وِلَايَةٌ أُخْرَى تَمَنَعُهُمْ، وَدُخُولَ أَقْسِيسَ إِلَى مِصْرَ وَحَصْرَهَا؛ خَافُوا، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْفِرِنْجِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى الشَّامِ لِيَمْلِكُوهُ، وَيَكُونُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ) فوافق ذلك هواهم في وقت شهدت فيه أوروبا الكثير من المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين فقر في المواد الخام وازدياد في أعداد السكان وخلافات بين الملوك والفرسان ، واستغل البابا(أوربان الثاني)  تلك الأحوال فوظفها توظيفا دينيا ، وصار يحض الناس على غزو الشرق حضا .

وقد بدأ ذلك  بخطبة له سنة 1095 م طالب فيها العامة بتخليص قبر المسيح المقدس من أيدي المسلمين وتطهير القدس منهم ، وقد لاقت دعوته استجابة كبيرة من كل الطوائف طمعا في خيرات المسلمين التي كانوا يسمعون عنها وهم في شظف من العيش ، بداية من الأمراء والملوك وانتهاء بعوام الناس مرورا بالفرسان والنبلاء والتجار .

واتفقوا على الالتقاء والتجمع في نقطة من الشرق الأوروبي على شواطئ بحر مرمرة وهي القسطنطينية.

وخرجت الجموع عشرات الآلاف، من فرنسا وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وبولنده، يقودهم الرهبان، وأمراء الإقطاعات والممالك الأوروبية، وتقدم الجميع وسبقهم في طريق البر الراهب بطرس الناسك، يلبس ثيابًا مهلهلة، ويسير حافي القدمين، ممسكًا بالإنجيل والصليب، وحوله حشود كبيرة من الناس، فيهم الرجال والنساء والأطفال ـ خرج بهم من ألمانيا في مايو عام ألف وستة وتسعين للميلاد (أربعمائة وتسعين للهجرة).

ولم يَبْدُ على بطرس ومن معه أنهم يصلحون لخوض حرب ضد المسلمين، فما هم إلا رعاع وغوغاء دفعتهم الحماسة الكاذبة إلى ما لا يطيقون، بل هم ـ على حد تعبير المؤرخين الغربيين: "جماعات من الأفاكين لا يَستحقون مشاهدةَ قبر المسيح"!..

وعبروا المجر وبلاد البلقان صوب القسطنطينية، فنهبوا البلاد والقرى، ونال القسطنطينيةَ منهم شرٌّ كثير، "فأحرقوا القصور، ونهبوا الكنائس". فبعث الإمبراطور البيزنطي إلى البابا قائلاً: "إن كنتم تريدون حقًا الوصولَ إلى بيت المقدس، فابعثوا جيوشًا منظمة وفرسانًا مدربين" وقال لهم ذلك على سبيل التهكم .

وبعد عبورهم الخليج عند القسطنطينية كان أول لقاء لهم بالمسلمين في قونية بلاد قلج أرسلان ، وقد ظهر في هذا اللقاء التناقض الذي يعيشه المسلمون ففي مقابل شجاعتهم الفائقة كان تشرذمهم وتفرقهم سببا في هلاكهم ، فقد تفانى في دفاعهم ولكن ماذا يفعل بقوته وهي جزء جزيء من العالم الإسلامي أمام الصليبيين الذين اتحدت قواتهم فصارت من عوامل نصرهم رغم همجيتهم ، َفهَزَمُوهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَاجْتَازُوا فِي بِلَادِهِ إِلَى بِلَادِ الشام وتوجهوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَحَصَرُوهَا.

وكما كتب على قلج أرسلان أن يواجه زحوفهم الغفيرة وحده دون سائر المسلمين كذلك كان الحال مع أمير أنطاكية " ياغي سيان "وخاصة بعد أن كاتب هؤلاء الصليبيون صَاحِبَ حَلَبَ، وَصاحب دِمَشْقَ يقولون لهما، بِأَنَّنَا لَا نَقْصِدُ غَيْرَ الْبِلَادِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ الرُّومِ، لَا نَطْلُبُ سِوَاهَا، مَكْرًا مِنْهُمْ وَخَدِيعَةً، حَتَّى لَا يُسَاعِدُوه.

فلما وجد نفسه وحيدا بقوته المحدودة ، أسرع بخندقة المدينة ، وأظهر بسالة عظمى في مواجهتهم حتى إنهم حاصروه تسعة أشهر لا يستطيعون بجمعهم الدخول عليه ، وهَلَكَ أَكْثَرُهم (مَوْتًا، وَلَوْ بَقَوْا عَلَى كَثْرَتِهِمُ الَّتِي خَرَجُوا فِيهَا لَطَبَّقُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ) ، فَلَمَّا طَالَ عليهم المقام رَاسَلُوا أَحَدَ الْمُسْتَحْفِظِينَ لِلْأَبْرَاجِ، وَهُوَ زَرَّادٌ يُعْرَفُ بِرُوزَبَةَ، وَبَذَلُوا لَهُ مَالًا وَأَقْطَاعًا، وَكَانَ يَتَوَلَّى حِفْظَ بُرْجٍ يَلِي الْوَادِيَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى شُبَّاكٍ فِي الْوَادِي، فَلَمَّا تَقَرَّرَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَذَا الْمَلْعُونِ الزَّرَّادِ، جَاءُوا إِلَى الشُّبَّاكِ فَفَتَحُوهُ، وَدَخَلُوا مِنْهُ، وَصَعِدَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ بِالْجِبَالِ، فَلَمَّا زَادَتْ عِدَّتُهُمْ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ضَرَبُوا الْبُوقَ، وَذَلِكَ عِنْدَ السَّحَرِ، وَقَدْ تَعِبَ النَّاسُ مِنْ كَثْرَةِ السَّهَرِ وَالْحِرَاسَةِ، فَاسْتَيْقَظَ يَاغِي سِيَانُ، فَسَأَلَ عَنِ الْحَالِ، فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْبُوقَ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا قَدْ مُلِكَتْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْبُرْجِ، فَدَخَلَهُ الرُّعْبُ، وَفَتَحَ بَابَ الْبَلَدِ، وَخَرَجَ هَارِبًا فِي ثَلَاثِينَ غُلَامًا عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ نَائِبُهُ فِي حِفْظِ الْبَلَدِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ إِنَّهُ هَرَبَ، فَخَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ هَارِبًا، وَكَانَ ذَلِكَ مَعُونَةً للْفِرِنْجِ، وَلَوْ ثَبَتَ سَاعَةً لَهَلَكُوا.

ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ دَخَلُوا الْبَلَدَ مِنَ الْبَابِ، وَنَهَبُوهُ، وَقَتَلُوا مَنْ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى.

وأحدث سقوط أنطاكية ضجة بين الأمراء المسلمين المجاورين لها ، فكانوا استفاقوا من غفلتهم على الخطر المحدق بهم ، فقام أحدهم وهو قِوَامُ الدَّوْلَةِ كَرْبُوقَا بجَمَعَ الْعَسَاكِرَ ، وَسَارَ إِلَى الشَّامِ، وَأَقَامَ بِمَرْجِ دَابِقَ، وَاجْتَمَعَتْ مَعَهُ عَسَاكِرُ الشَّامِ، تُرْكُهَا وَعَرَبُهَا سِوَى مَنْ كَانَ بِحَلَبَ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ وطُغْتِكِينُ أَتَابِكُ، وَجَنَاحُ الدَّوْلَةِ، وَصَاحِبُ حِمْصَ، وَأَرْسِلَانُ تَاشْ، صَاحِبُ سِنْجَارَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ أُرْتُقَ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْفِرِنْجُ عَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْهِمْ، وَخَافُوا لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْوَهَنِ، وَقِلَّةِ الْأَقْوَاتِ عِنْدَهُمْ، وَسَارَ الْمُسْلِمُونَ، فَنَازَلُوهُمْ عَلَى أَنْطَاكِيَةَ، وكاد أن يتحقق لهم النصر ويقضوا على خطر الصليبيين المبكر ، ولكن سريرتهم وعدم صفائهم لم تمكنهم من ذلك ، حيث َأَسَاءَ كَرْبُوقَا السِّيرَةَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَغْضَبَ الْأُمَرَاءَ وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ مَعَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَأَغْضَبَهُمْ ذَلِكَ، وَأَضْمَرُوا لَهُ فِي أَنْفُسِهِمُ الْغَدْرَ، إِذَا كَانَ قِتَالٌ، وَعَزَمُوا عَلَى إِسْلَامِهِ عِنْدَ الْمَصْدُوقَةِ.

وَكان الْفِرِنْجُ قد أقاموا بِأَنْطَاكِيَةَ، بَعْدَ أَنْ مَلَكُوهَا، اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا لَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَهُ، وَتَقَوَّتَ الْأَقْوِيَاءُ بِدَوَابِّهِمْ، وَالضُّعَفَاءُ بِالْمَيْتَةِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَرْسَلُوا إِلَى كَرْبُوقَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ لِيَخْرُجُوا مِنَ الْبَلَدِ، فَلَمْ يُعْطِهِمْ مَا طَلَبُوهُ، وَقَالَ: لَا تَخْرُجُونَ إِلَّا بِالسَّيْفِ.

وَكَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْمُلُوكِ بَرْدُوِيلُ، وَصَنْجِيلُ، وَكُنْدُفْرِي، وَالْقُمَّصُ، صَاحِبُ الرُّهَا وَبَيْمُنْتُ، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ.

فلما اشتد عليهم الحال بدءوا يخرجون مِنَ مُتَفَرِّقِينَ مِنْ خَمْسَةٍ، وَسِتَّةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ لِكَرْبُوقَا: يَنْبَغِي أَنْ تَقِفَ عَلَى الْبَابِ، فَتَقْتُلَ كُلَّ مَنْ يَخْرُجُ، فَإِنَّ أَمْرَهُمُ الْآنَ، وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ، سَهْلٌ فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا! أَمْهِلُوهُمْ حَتَّى يَتَكَامَلَ خُرُوجُهُمْ فَنَقْتُلَهُمْ، وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْ مُعَاجَلَتِهِمْ، فَقَتَلَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةً مِنَ الْخَارِجِينَ، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَمَنَعَهُمْ، وَنَهَاهُمْ.

فَلَمَّا تَكَامَلَ خُرُوجُ الْفِرِنْجِ، وَلَمْ يَبْقَ بِأَنْطَاكِيَةَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، ضَرَبُوا مَصَافًّا عَظِيمًا، فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُنْهَزِمِينَ، لِمَا عَامَلَهُمْ بِهِ كَرْبُوقَا أَوَّلًا مِنَ الِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَثَانِيًا مِنْ مَنْعِهِمْ عَنْ قَتْلِ الْفِرِنْجِ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَضْرِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِسَيْفٍ، وَلَا طَعَنَ بِرُمْحٍ، وَلَا رَمَى بِسَهْمٍ، وَآخِرُ مَنِ انْهَزَمَ سُقْمَانُ بْنُ أُرْتُقَ، وَجَنَاحُ الدَّوْلَةِ، لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي الْكَمِينِ، وَانْهَزَمَ كَرْبُوقَا مَعَهُمْ.

فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ ظَنُّوهُ مَكِيدَةً، إِذْ لَمْ يَجْرِ قِتَالٌ يُنْهَزَمُ مِنْ مِثْلِهِ، وَخَافُوا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ، وَثَبَتَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، وَقَاتَلُوا حِسْبَةً، وَطَلَبًا لِلشَّهَادَةِ، فَقَتَلَ الْفِرِنْجُ مِنْهُمْ أُلُوفًا، وَغَنِمُوا مَا فِي الْعَسْكَرِ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَسْلِحَةِ، فَصَلُحَتْ حَالُهُمْ، وَعَادَتْ إِلَيْهِمْ قُوَّتُهُمْ.

وهكذا كان شؤم الفرقة والمعصية عليهم جميعا .

ولم يتمهل الصليبيون بعد نشوة الانتصار هذه فأسرعوا إِلَى مَعَرَّةِ النُّعْمَانِ، فَنَازَلُوهَا، وَحَصَرُوهَا، وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَرَأَى الْفِرِنْجُ مِنْهُمْ شِدَّةً وَنِكَايَةً، وَلَقُوا مِنْهُمُ الْجِدَّ فِي حَرْبِهِمْ، وَالِاجْتِهَادَ فِي قِتَالِهِمْ، فَعَمِلُوا عِنْدَ ذَلِكَ بُرْجًا مِنْ خَشَبٍ يُوَازِي سُورَ الْمَدِينَةِ، وَوَقَعَ الْقِتَالُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَضُرَّ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ خَافَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَدَاخَلَهُمُ الْفَشَلُ وَالْهَلَعُ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذَا تَحَصَّنُوا بِبَعْضِ الدُّورِ الْكِبَارِ امْتَنَعُوا بِهَا، فَنَزَلُوا مِنَ السُّورِ وَأَخْلَوُا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانُوا يَحْفَظُونَهُ، فَرَآهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى، فَفَعَلُوا كَفِعْلِهِمْ، فَخَلَا مَكَانُهُمْ أَيْضًا مِنَ السُّورِ.

(وَلَمْ تَزَلْ تَتْبَعُ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الَّتِي تَلِيهَا فِي النُّزُولِ، حَتَّى خَلَا السُّورُ، فَصَعِدَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهِ عَلَى السَّلَالِيمِ، فَلَمَّا عَلَوْهُ تَحَيَّرَ الْمُسْلِمُونَ) ، وَدَخَلُوا دُورَهُمْ، فَوَضَعَ الْفِرِنْجُ فِيهِمُ السَّيْفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَتَلُوا مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ، وَسَبَوُا السَّبْيَ الْكَثِيرَ..

وشجعهم ذلك على المضي قدما في ابتلاع باقي المدن الشامية ،  فسَارُوا إِلَى عِرْقَةَ فَحَصَرُوهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَنَقَبُوا سُورَهَا عِدَّةَ نُقُوبٍ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، وَرَاسَلَهُمْ مُنْقِذٌ، صَاحِبُ شَيْزَرَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَيْهَا، وَسَارُوا إِلَى حِمْصَ وَحَصَرُوهَا، فَصَالَحَهُمْ صَاحِبُهَا جَنَاحُ الدَّوْلَةِ، وَخَرَجُوا عَلَى طَرِيقِ النَّوَاقِيرِ إِلَى عَكَّا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا.

وفي الوقت الذي كان فيه هؤلاء الأمراء منهمكين في دفاع الصليبيين والانشغال بأمرهم تقدم العبيديون فأخذوا القدس عنوة من السلاجقة السنة الذين كانوا يحكمونها ويتولون الدفاع عنها ، فلم تمكث معهم إلا قليلا حتى اغتصبها الصليبيون ، فلا هم استطاعوا الدفاع عن حرمتها ولا هم تركوا السنة يدافعون عنها . وغابت فيه نجدتهم للمسلمين، أو الدفاع عن الإمارات الإسلامية رغم القوة التي كانوا يمتلكونها، والاستقرار الذي كانت تنعم به بلادهم ، مقارنة بغيرها.

ويكاد المؤرخون يجمعون، على أن العبيديين الفاطميين، ووزيرهم القوي آنذاك، الأفضل بن بدر الجمالي، وجدوا في الحروب الصليبية على بلاد المسلمين فرصة سانحة للقضاء على دولة السلاجقة السنة، وتوسيع نفوذ العبيديين على حسابها، ولم يكن في بال العبيديين محاربة الصليبيين أو نجدة المسلمين.

 

وبعد ذلك اتجه الصليبيون تجاه بيت المقدس فرسوا خلف أسوارها في شهر رجب سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة، وعلى المدينة أمير من قِبَلِ الفاطميين (يسمى افتخار الدولة) وفيها حوالي عشرين ألفًا، معهم حامية من الجنود تقدر بألف مقاتل، ويقودها الأمير الفاطمي "افتخار الدولة"، فلما أخذ الخطر يقترب من بيت المقدس، استيقظ الكثير من المسلمين في المدن والحصون القريبة منها، فتوافدوا نحو المدينة لحمايتها في أعداد كبيرة، حتى بلغوا أربعين ألفًا، ولكن ماذا تفعل الأربعون ألفا المحاصرة أمام جموع الصليبيين التي قدرت في رأي بعض المؤرخين بمليون جندي .

وإضافة إلى هذا العدد فقد انضم إليهم ـ كما يقول بعض المؤرخين ـ من الموارنة اللبنانيين قرابة " ثلاثين ألف نبال..!!

كانت القدس "من أضخم المعاقل والحصون في عالم العصور الوسطى"، وقد اهتم كل من ملكها منذ القدم بتحصينها وتقوية أسوارها، لحمايتها، ودفع طمع الطامعين عنها، وقد كان هذا سلاحًا مهمًا في يد المسلمين عند الزحف الصليبي على المدينة المقدسة.

وظهر للصليبيين أنه ليس في استطاعتهم حصار المدينة أو دخولها إلا من جهتها الشمالية أو زاويتها الشمالية الغربية، وأما باقي الجهات فبها مجموعة من الأودية الصعبة التي تستعصي على العبور، إذ يلف القدس من الشرق والجنوب الشرقي وادي قدرون أو وادي جهنم، ومن الجنوب وادي الربابة، ومن الغرب يلفها وادي تيروبيون.

وإضافة إلى هذه التحصينات الطبيعية، فقد قام في منتصف السور الغربي من المدينة ـ الذي يسيطر على جزء كبير من محيط المدينة ـ حصنُ داود المنيع، وكذلك الخنادق المحفورة خارج سور المدينة في الشمال والشمالين الشرقي والغربي.

وأما ماء المدينة فقد كان من المطر، لذا كثرت في القدس الصهاريج التي يُجمَع فيها هذا الماء، وخُزِّن الكثير منه عندما علم المسلمون بقدوم الصليبيين، استعدادًا لمقاومة حصار صليبي يُتوقع أن يطول.

ومع اقتراب الزحف الصليبي بدأ "افتخار الدولة" أعماله الدفاعية ، فردم العيون والآبار الواقعة خارج المدينة، ليمنع الصليبيين من التزود من مائها، وحشد الجنود في مداخل المدينة الخطرة، ووضع الحراسة على الحصون والأبراج، ليراقبوا أعمال الصليبيين لمواجهتها بسرعة، كما أعد الكمائن التي تتصيد المنفردين من الصليبيين عن جماعتهم بحثًا عن الماء، أو بحثًا عن فرصة لاقتحام الحصون المقدسية.

ودعم افتخار الدولة أبراج المدينة بأكياس من القطن والخرق البالية، لتمتص عن الحصون صدمة الأحجار التي تقذفها المجانيق الصليبية.

وحولَ الأسوار وزّع الصليبيون قواتهم في الجهات التي يمكن اقتحام المدينة منها، خاصة في الشمال والشمال الغربي، لكن حرارة الصيف في عام تسعة وتسعين وألف كانت سيدة الموقف، وصاحبة التأثير الكبير في سير المعركة، حيث عجز الصليبيُّ الأوروبيُّ عن الصبر على حرارة الشمس التي لم يكن له بها عهد، والعطش الشديد المصاحب لها. "ومما زاد في قلق الصليبيين أن المُؤَنَ بدأت تنفد في المعسكرات، دون أن تتمكن قيادتهم من تأمين ما يمكن أن يسد حاجتهم لأمد طويل".

لم يكن أمام الصليبين حل إزاء هذا الوضع سوى المبادرة بالهجوم، فاندفعوا في ضراوة هائلة لاقتحام أسوار القدس المباركة، وبدأ القتال عند فجر اليوم السادس للحصار، والمسلمون صابرون يدفعون عدوهم بكل ما يملكون من القوة، ومع إن الصليبيين لم يستطيعوا اقتحام المدينة إلا أنهم سيطروا على سورها الشمالي من الخارج، وافتقروا إلى أدوات تسلق الأسوار فرجعوا إلى مواقعهم ليستعدوا لهجوم جديد.

قضى الصليبيون قرابة شهر في الاستعداد للهجوم الحاسم، ومقاومة الانخفاض في معنويات جنودهم، الذين أرهقهم القتال والحر الشديد، وقرروا الهجوم من نقطة صعبة من المدينة، إلا أنها أقل تحصينًا، وهو الجانب الشمالي الشرقي من سور القدس، من باب دمشق غرباً، حتى باب الساهرة، فباب يهوشافاط شرقًا.

وركّز المهاجمون القتال على محورَيْنِ: أحدهما من باب الساهرة باتجاه الحرم القدسي الشريف، والآخر من جبل صهيون باتجاه حصن داود. واستطاع المقاتلون على المحور الأول بقيادة جودفري دي بويون اقتحام سور القدس عن طريق برج متحرك، قربوه من السور، ثم قفزوا متتابعين من فوقه إلى داخل المدينة، وهناك ارتكبوا مذبحة رهيبة في المسجد الأقصى، ثم فتحوا باب العمود أمام بقية قواتهم، وواصلوا أعمالهم البشعة في المدينة.

وأما المحور الثاني، فقد لقي الصليبيون فيه مقاومة أشد بقيادة حاكم المدينة "افتخار الدولة"، لكن نجاح أعمال المحور الأول حطم هذه المقاومة، فسقطت المدينة المقدسة كلها في يد الصليبيين في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، الخامس عشر من يوليو سنة تسع وتسعين وألف، وأعملوا في أهلها القتل بكل وحشية ، ولبثوا في الْبَلْدَةِ أُسْبُوعًا يَقْتُلُونَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَتَلَ الْفِرِنْجُ، بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، مَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ أَلْفًا، مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُلَمَائِهِمْ، وَعُبَّادِهِمْ، وَزُهَّادِهِمْ، مِمَّنْ فَارَقَ الْأَوْطَانَ وَجَاوَرَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ الشَّرِيفِ..

 

وقد علق أحد المؤرخين النصارى ( وهو الأسقف وليم الصوري ) على تلك الأعمال البشعة بقوله :" كان من المستحيل أن يطالع المرء كثرة القتلى دون أن يستولي عليه الفزع، فقد كانت الأشلاء البشرية في كل ناحية، وغطت الأرض دماء المذبوحين، ولم تكن مطالعة الجثث ـ وقد فارقتها رءوسها ـ ورؤية الأعضاء المبتورة المبعثرة في جميع الأرجاء هي وحدها التي أثارت الرعب في نفوس جميع من شاهدوها، بل كان هناك ما هو أبعث على الفزع، ألا وهو منظر المنتصرين أنفسهم وقد تخضبوا بالدماء فغطتهم من رؤوسهم إلى أخْمَصِ أقدامهم، فكان منظرًا مروِّعًا بث الرعب في قلوب كل من قابلوهم، ويقال إنه قتل في داخل ساحة المسجد وحدها عشرة آلاف من المارقين (يقصد المسلمين!)، بالإضافة إلى أن القتلى الذين تناثرت جثثهم في كل شوارع المدينة وميادينها لم يكونوا أقل عددًا ممن ذكرناهم"."انطلق بقية العسكر يَجُوسُونَ خلالَ الديار بحثا عمن لازال حيًّا من التعساء الذين قد يكونون مختَفِينَ في الأزقّة والدروب الجانبية فرارًا من الموت، فكانوا إذا عثروا عليهم سحبوهم على مشهد من الناس، وذبحوهم ذبح الشياه. وجعل بعض العسكر من أنفسهم عصابات انطلقت تسطو على البيوت ممسكين بأصحابها ونسائهم وأطفالهم، وأخذوا كل ما عندهم ثم راحوا يقتلون البعض بالسيف، ويقذفون بالبعض الآخر من الأمكنة العالية إلى الأرض فتتهشم أعضاؤهم، ويهلكون هلاكًا مروعًا"! .

وأحْرَقُوا حتى اليهود المقربين لهم في الديانة في داخل معبدهم.

ويكفي أن نعلم أن المدينة خلت تمامًا من المسلمين واليهود عقب دخول الصليبيين لها، ولم ينج من المسلمين سوى أمير القدس الفاطمي "افتخار الدولة" في بعض جنوده.

وشبيه بذلك ما قاله المؤرخ الصليبي المرافق لتلك القوات التعيسة ريمونداجيل: "سفك تانكرد وجودفري في المقدمة كمية لا تصدق من الدماء، وأنزل زملاؤهما الذين كانوا في أعقابهم آلامًا شديدة بالمسلمين.. فقد قطعت رءوس بعض المسلمين بلا رحمة، بينما اخترقت الآخرين الأسهم الموجهة من الأبراج، بينما عذب آخرون لوقت طويل، وأحرقوا حتى الموت في اللهب المتأجج، وتكدست في الطرقات والبيوت الرءوس والأيدي والأقدام، وفعلاً فقد كان الفرسان والرجال يجرون جيئة وذهابا فوق الجثث".

وقال ثالث : "كان قومنا يجوبون، كاللبوات التي خطفت صغارها، الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، فكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إربًا إربًا، وكانوا لا يستبقون إنسانًا، وكانوا يشنقون أناسًا كثيرين بحبل واحد بغية السرعة .. وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعًا ذهبية، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث ... ثم أحضر بوهيموند جميع الذين اعتقلهم في برج القصر، فأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم وضعافهم، وبسوق فتياتهم وكهولهم إلى أنطاكية ليباعوا فيها ..

لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، فكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهنالك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها، فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة ..

وأراد الصليبيون أن يستريحوا من عناء تذبيح أهالي القدس قاطبة، فانهمكوا في كل ما يستقذره الإنسان من ضروب السكر والعربدة ..".

وقال رابع : "حدثت ببيت المقدس مذبحة رهيبة، وكان دم المقهورين يجري في الشوارع، حتى لقد كان الفرسان يصيبهم رشاش الدم وهم راكبون، وعندما أرخى الليل سدوله جاء الصليبيون وهم يبكون من شدة الفرح، وخاضوا في الدماء التي كانت تسيل كالخمور في معصرة العنب، واتجهوا إلى الناووس، ورفعوا أيديهم المضرجة بالدماء يصلون لله شكرًا!! ..".

ولا عجب فقد علمنا الغرب أن شكر الإله في نظرهم لا يكون إلا بتلك الأعمال الوحشية التي نم عن قسوة قلوبهم .

ونهبوا ما في المسجد الأقصى ، فأَخَذُوا مِنْ عِنْدِ الصَّخْرَةِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ قِنْدِيلًا مِنَ الْفِضَّةِ، وَزْنُ كُلِّ قِنْدِيلٍ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخَذُوا مِنَ الْقَنَادِيلِ الصِّغَارِ مِائَةً وَخَمْسِينَ قِنْدِيلًا نُقْرَةً، وَمِنَ الذَّهَبِ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ قِنْدِيلًا، وَغَنِمُوا مِنْهُ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِحْصَاءُ " .

المصدر: موقع التاريخ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين