العبادات التي دعا إليها محمدٌ صلى الله عليه وسلم

 

قرَّرتُ في مقال سابق (1) أنَّ دعوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ودعوة سائر رسل الله تعالى الذين من قبله مُتَّفقة في أصولها وفي مقاصدها، وبيَّنت في مقال سابق (2) هذا الاتفاق في العقائد.

وأبيِّن في مقالي هذا وحدة دعوة رسل الله تعالى في العبادات، وغرضي الذي أقصد إليه هو بيان أنَّ الله سبحانه إنما قصد بإرسال رسله وتشريع شرائعه إصلاح حال الناس أفراداً وجماعات، وأنَّ وسائل الإصلاح الإلهي مُتَّفقة في أصولها، وإذا ظهر اختلاف بين بعض هذه الوسائل وبعض فإنما هو اختلاف في تفصيلات جزئية اقتضاه اختلاف البيئات واختلاف استعداد النفوس للتكليفات.

العبادات الأربع التي بُني عليها الإسلام هي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجُّ البيت الحرام، وهذه العبادات الأربع دعا إليها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ودعا إليها رسل الله صلى الله عليهم وسلم من قبله، قال تعالى في دعاء إبراهيم عليه السلام: [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي] {إبراهيم:40}. وقال في إسماعيل: [وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا] {مريم:55}. وقال في ميثاق بني إسرائيل: [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ] {البقرة:83}. وقال في عيسى بن مريم: [‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] {مريم:31}. وقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183}. وقال تعالى في حكاية خطابه لرسوله إبراهيم صلى الله عليه وسلم: [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ] {الحج:27}.

فهذه الآيات صريحة في أنَّ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصيام والحج هي عبادات رسل الله السابقين وعبادات أممهم، وأنَّ الله سبحانه كلَّف المسلمين بالعبادات التي كلَّف بها الأمم من قبلهم، فإقامة الصلاة عبادة إلهيَّة واحدة لجميعِ رسل الله وأممهم، والاختلاف في كيفياتها وكمياتها وزمانها ومكانها لا يُنافي وحدتها في أساسها وجوهرها والغرض المقصود منها، وإيتاء الزكاة عبادة إلهيَّة واحدة لهم جميعاً، والاختلاف فيمن تجب عليه وفي مقدار الواجب وفيمن يؤدى له لا ينافي وحدتها في أساسها والغرض المقصود منها. وكذلك الصيام عبادة إلهية واحدة لهم جميعاً، والاختلاف فيما تمسك النفس عنه وفي زمن هذا الإمساك وفيما يتحقَّق به لا يُنافي وحدة العبادة في أساسها وفي حكمتها المقصودة منها، وكذلك حجُّ البيت الحرام عبادة واحدة، والاختلاف في مناسك هذا الحج لا ينافي وحدة أساسه، ووحدة المقصود منه.

والأحكام التفصيليَّة التي شرعها الإسلام لكل عبادة من هذه العبادات هي الأحكام التي تلائم حال الناس في آخر تطور لهم، إذ بعث فيهم خاتم النبيين، فهي الأحكام التي تلائم أحوال الناس كافَّة وتستعدُّ لها نفوس البشر عامَّة، لأنَّ الله سبحانه أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم للناس كافَّة، إذ قال وهو أصدق القائلين: [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] {الفرقان:1}، وهي الأحكام الصالحة لكل زمان، لأنَّ محمدَ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده، فكما أنها مُلائمة لنفوس كل الناس هي ملائمة لكل زمان.

وأنا أذكر في كل عبادة من هذه العبادات بعض أحكامها التي تتجلى منها حكمة الله تعالى في تشريعها، وما أراده سبحانه من اليسر والتخفيف ورفع الحرج في التكليف بها، ومن هذا التيسير والتخفيف يتبين بتوفيق الله أنَّها أحكام صالحة للناس كافَّة لا تشق على مسلم في أي زمان أو مكان، وتجعلها في وسع كل مسلم أينما كان.

الصلاة:

من بدء الدعوة الإسلامية بمكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أجابوه إلى دعوته رضي الله عنهم يصلون، ولكن لم يُنقل إلينا بسند يطمأن له كيف كانوا يصلون، وفي أي الأوقات كانوا يصلون، وما الذي كان يُشترط لإقامة الصلاة وما أركانها، وقد كانت صلاتهم في أكثر الحالات خفية اتقاء لأذى المشركين وفتنتهم، والذي اتفق عليه الرواة أن الصلاة فُرضت على المسلمين خمس صلوات في اليوم والليلة بهذه الكيفية التي نؤديها بها في ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة، وأنَّ قِبْلة المسلمين في صلاتهم كانت بيت المقدس، وما حُوِّلت إلى الكعبة إلا بعد سبعة عشر شهراً من الهجرة إلى المدينة.

والذي دلَّ على فرضها على المسلمين آيات قرآنيَّة كثيرة في السور المكيَّة والمدنيَّة منها قوله تعالى: [فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] {الحج:78} وقوله سبحانه: [ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] {النساء:103}، وقوله: [وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] {هود:114}، وقوله: [وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ] {العنكبوت:45}، وقوله: [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى] {البقرة:238}.

وقد أكَّد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرضية بسننه القولية والعملية، فعدَّ إقامة الصلاة إحدى القواعد الخمس التي بُني عليها الإسلام، وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: (أخبرهم أنَّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة) وقد تضافرت عِدَّة أحاديث عن الرسول في تأكيد فرضيتها، وفي الحثِّ على أدائها لوقتها، وإتمام أركانها والخشوع فيها، ولهذا انعقد الإجماع على أنَّها فريضة على كل مسلم ومسلمة، وعلى أنَّ جاحد فرضيتها جاحد ركناً من أركان الإسلام.

والقرآن الكريم دلَّت آياته على أنَّ إقامة الصلاة فرض، ولكنه لم يفصل كيف تقام الصلاة، وما أوقاتها، وما عدد ركعات كل فريضة، وما أركان كل ركعة، والذي فصَّل هذا كله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقواله وبأفعاله فقد صلى وقال للمسلمين: (صلواكما رأيتموني أصلي)، ومن المتفق عليه أن تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم وتفصيله لما أجمل في القرآن هو من عند الله تعالى لا من عند نفسه؛ لأنَّ الله سبحانه الذي أجمل هو العليم بتفصيل ما أجمله.

فالله سبحانه فرض إقامة الصلاة في القرآن إجمالاً، وأوحى إلى رسوله بتفصيل هذا الإجمال، فالجملة والتفصيل من عند الله تعالى.

وكما دلَّت آيات القرآن على فرض الصلاة، دلت على حكمتها وعلى أثرها في أخلاق المسلم، وأثرها في استقامة أحوال جماعة المسلمين، قال تعالى: [وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] {العنكبوت:45}، وبيَّن سبحانه السبب في أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر من الأفعال والأقوال والأخلاق، لأنَّها ذكر لله، وتذكر لألوهيته، واستشعار لعظمته، وذكر الله وربوبيَّته وعظمته ونعمه ونقمه أكبر ما ينهى عن الفحشاء والمنكر؛ لأنَّ ذكر الله تعالى يحيي الضمير ويقوي الإيمان، وقوة الإيمان وحياة الضمير كفيلان بردع النفس عن السوء، ونهيها عن الفحشاء والمنكر، والمؤمن لا يقدم على منكر إلا في غفلة قلبه عن ذكر ربه، وغلبة هواه على عقله وضميره.

وقال سبحانه وتعالى: [وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] {هود:114}، أي: أن الصلوات مجموعة حسنات توجه إلى الخير وتُعَوِّد البرَّ، فهي تصرف عن الوقوع في السيئات وعن الاتجاه إلى الشرور، لأنَّ كل عامل يتوجه إلى الخير يدفع عن الشر، وكما أنها تصرف عن الوقوع في السيئات تقضي على ما قد يقع من الإنسان من سيئات، لأنها تبعثه على الندم والإنابة، والندم يمحو الخطيئة ويكفر السيئة.

وقال عزَّ شأنه: [إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا(21) إِلَّا المُصَلِّينَ(22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)]. {المعارج}. أخبر سبحانه أنَّ الإنسان من دأبه أن يكون هلوعاً أي: شديد الجزع إذا نزل به الشر من عُسْر أو مرض أو مكروه، شديد الشح والمنع إذا مسَّه الخير من مال أو جاه أو أية نعمة، وشدَّةُ الجزع عند الشدائد تفقد الإنسان رشده، وتنتهي به إلى اليأس وما لا تحمد عقباه، وشدَّة الشح والمنع من الخير تورث في قلب الشحيح القسوة، وتورث في قلب الناس بغضه والحقد عليه، واستثنى سبحانه المصلين، فالمصلي لا يشتدُّ جزعه إذا مسَّه سوء، بل يرجع الأمر إلى قضاء ربه، ويلجأ إليه في كشف ما نزل به، ولا يشتد منعه إذا ناله خير، بل يؤمن بأن هذا من فضل الله تعالى عليه، ويشكره على فضله بالإحسان إلى المخادع من عباده، والإنفاق في وجوه البر بالناس.

وجميع الشروط التي اشترطها الإسلام لإقامة الصلاة هي شروط تكمل الصلاة في تحقيق الحكمة المقصودة وتعويد المسلمين أحسن العادات.

اشترط الإسلام لإقامة الصلاة طهارة البدن والثوب والمكان ليعتاد المسلم النظافة واجتناب الأقذار والنجاسات، واشترط ستر العورة ليعتاد المسلم الكمال وما تقتضيه المروءة وفضل الإنسان على سائر الحيوان، واشترط استقبال القبلة لإشعار المسلمين بأنَّ وجهتهم واحدة، ورابطتهم واحدة، واشترط الوضوء لينظف المسلم فمه وأنفه ووجهه ويديه وسائر الأعضاء الظاهرة التي تتعرَّض لأخطار التلوث والأمراض، وسنَّ أن تؤدَّى جماعة ليشعر المسلمون بأخوتهم ومساواتهم، وليتبادلوا التعارف والتعاون. 

ويطولُ المقال إذا فَصَّلتُ حكمةَ كلِّ شرط، وكل ركن من أركان الصلاة.

وكما تجلت في تشريع الصلاة حكمة الله تعالى البالغة، تجلَّت رحمته الواسعة وإرادته اليسر بعباده والتخفيف عنهم بما شرعه من الأحكام لدفع الضرر ورفع الحرج.

فمن لم يجد الماء تيمَّم، ومن وجد الماء وغلب على ظنِّه أنَّ استعماله يُمرضه أو يزيد مرضه تيمَّم، ومن لم يتحقق القبلة تحرَّى وصلى كما يغلب على ظنه، ومن شقَّ عليه أن يصلي قائماً صلى قاعداً، ومن كان على سفرٍ جاز له أن يقصر الصلاة ويصلى الرباعية ركعتين، وفي السفر وفي المطر يجمع بين الصلاتين في وقت واحد جمع تقديم أو جمع تأخير، ومن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإنَّ ذلك وقتها، وكل مكان محل لإقامة الصلاة، مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (جُعلت لي الأرض مسجداً طهوراً)، ومن صلى في السفينة أو القطار ولم يقدر على استقبال القبلة صلى إلى جهة قدرته.

هذه بعض الأحكام التي شرعها الإسلام للتخفيف والتيسير ودفع الضرر ورفع الحرج في إقامة الصلاة، فإقامة الصلاة فريضة على كل مسلم ومسلمة في كل حال: في الإقامة أو السفر، في الصحة أو المرض، في البدو أو الحضر، وفي كل حال تكون إقامة الصلاة فيها مظنة مشقة دفعت هذه المشقَّة بما شُرع من أحكام التخفيف.

ومن هذا يتبين ما قدَّمنا الإشارة إليه من أنَّ الأحكام التي شرعها الإسلام للعبادة هي الأحكام التي تلائم كل إنسان في أي مكان وعلى أي حال، وبهذا صلحت لأن تكون آخر تطور في تشريع العبادات، ولأن يدعو إليها خاتم النبيين دعوة عامة للناس كافَّة، مصداق قول الله تعالى: [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] {الفرقان:1}.

الزكاة:

كان المسلمون بمكة من بدء الدعوة الإسلامية يزكي الغني منهم ماله بالتصدق على الفقراء، وما عرف نظام تفصيلي للزكاة التي كان يزكيها المسلمون وهم بمكة.

وقد أجمع الرواة على أنَّ الزكاة بنظامها التفصيلي في النقود وما في حكمها من عروض التجارة، وفي السوائم من الإبل والبقر والغنم، وفيما تخرج الأرض من زروع، وفيما تثمر الأشجار والكروم من ثمار إنَّما فُرضت في المدينة في السنة الثانية للهجرة.

والدليل على فرضها آيات كثيرة في القرآن، وأكثر ما يوجد: [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ] {البقرة:43} يوجد إلى جانبها: [وَآَتُوا الزَّكَاةَ] {البقرة:43}، قال تعالى: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] {التوبة:103} وقال في وصف المتقين: [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ] {الذاريات:19} وقال سبحانه: [وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] {الأنعام:141}، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّ إيتاء الزكاة من القواعد الخمس التي بُني عليها الإسلام.

والقرآن فرض إيتاء الزكاة مجملة، كما فرض إقامة الصلاة مجملة، والذي فصَّل مجمل الزكاة هو الرسول صلى الله عليه وسلم بسننه القولية والفعلية، فقد كتب إلى ولاة الصدقات بيَّن لهم المال الذي تجب فيه الزكاة، ومقدار النصاب الذي لا تجب فيما دونه زكاة، والشروط الواجب توافرها في كل نصاب، ومقدار الواجب أداؤه.

ومن أشهر كتبه التي تعتبر دستور أحكام الزكاة كتابه إلى عمرو بن حزم، وهو في صحاح السنَّة في كتاب الزكاة، وكما بيَّن القرآن فرضية إيتاء الزكاة بيَّن حِكمتها، إذ قال عزَّ شأنه: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] {التوبة:103} أي: أنَّ الصدقة التي تؤخذ من أموال الأغنياء تطهر نفوسهم من الشحِّ والبخل والقسوة، وتزكي أموالهم وتنميها باستثمارها في أمن من العدوان عليها، وإذا طهرت نفوس الأغنياء من الشحِّ والبخل والقسوة، وتحلَّت بالسخاء والجود والرحمة، طهرت نفوس الفقراء من الحقد والضغينة على الأغنياء، وطهرت عقولهم من خواطر السوء، ومبادئ الهدم، فالزكاة طهرة للأمة أغنيائها وفقرائها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (حَصِّنوا أموالكم بالزكاة).

ونظام الإسلام في أحكام الزكاة نظام حكيم فيه توفيق بين مصلحة الأغنياء والفقراء، فلم يهمل حاجة الفقراء ولم يرهق الأغنياء، فما فرضت الزكاة في مال إلا إذا بلغ مقداره نصاباً معيناً يعتبر مظنَّة الغنى وما فرضت الزكاة في نصاب من المال إلا إذا كان نامياً لتكون الصدقة من نمائه لا من أصله، وإلا إذا حال عليه الحول لتحقق فرص استثماره، وإلا إذا كان زائداً عن حاجات مالكه الأصلية لتكون الصدقة من الفضل، ولتطيب نفس المزكي بتزكيته.

وجعلت الزكاة في بعض الأموال من إيرادها، وهي زكاة الأطيان والأشجار والكروم، فالواجب مقدار مُعيَّن من المحصول من زروع وثمار، وفي بعض الأموال من رأس المال، وهي زكاة النقود وعروض التجارة والسوائم من الماشية، والمال الذي جعلت الزكاة فيه من أصله لا من إيراده شرط فيه أن يكون نامياً حتى تكون الزكاة من نمائه.

وجُعل الواجبُ في بعض الأموال مقدارٌ مقرَّر، وهو الواجب في زكاة السوائم، ففي خمس من الإبل شاة، وفي كل ثلاثين بقرة بقرة، وفي كل أربعين شاة شاة، وجُعل الواجب في بعض الأموال مقدار نسبي، ففي النصاب من النقود ربع العشر، وفي النصاب من الزروع والثمار نصف العشر إذا احتمل الزارع مؤونة سقيها، والعشر إذا سقيت بلا مؤونة.

وهذه الأحكام التي شرعها الإسلام للزكاة، ونوَّع الأموال هذا التنويع، ونوَّع الواجب منها هذا التنويع، هي الأحكام التي تجعل نظام الزكاة يُلائم كل أمة في أي عصر، وتجعله بحق آخر تطور في تشريع هذه العبادة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد 11، المجلد السابع، رجب 1373 مارس 1954).

*********** 

الحلقة السابقة هــــنا

(1) في العدد الثامن من السنة السابعة.

(2) في العدد التاسع من السنة السابعة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين