التكيف نعمة مأساوية.!

التكيف أو التأقلم نعمة كبيرة تجعل الإنسان قادرا علي مواجهة تقلبات الحياة من غني لفقر ومن اجتماع لافتراق ومن صحة لمرض ومن سعادة لبؤس .. ولولا التكيف لما تحمل الإنسان تقلبات الحياة وفواجعها.

وفي ذات الوقت هو مأساة كبيرة تقيد الإنسان داخل أسوار ظروف مفروضة عليه يتقبلها مع الوقت، ثم يتأقلم عليها ويتعايش معها، ثم يستسيغها ولا يشعر بقسوتها وقيودها، ثم يتمسك بها ويقاوم التمرد عليها.!

تماما كمن يعمل في مكان ينتج عنه روائح كريهة، يتأفف منها في البداية، ثم يتعود عليها، ثم تجده جالسا بكل أريحية يأكل غداءه داخل ذلك المكان المعبا بالرائحة النتنة، وقد يتعجب منك إن نبهته لذلك الجو العفن.!

هذا الجانب المأساوي من التكيف تدركه تماما الأنظمة الديكتاتورية ، ويستعينون بعلماء النفس والاجتماع ويوظفون أجهزة الإعلام لتطويع الشعوب تدريجياً نحو التكيف مع أوضاع بائسة يتم حقنهم بها بجرعات منتظمة متتالية تقودهم نحو التعايش ثم التأقلم ثم التكيف .

والسلطة المستبدة تقود المجتمع نحو قيم التكيف والركون والخضوع تحت شعار الصبر والاحتمال وشد الحزام ومنطق ليس في الإمكان أبدع مما كان.! 

وتهيء مناخ التكيف وتؤصله بإفساح المجال للمتكيفين ليجدوا لهم مكانا وفرصا في المجتمع في مقابل حرمان من يثور ويتمرد علي قِيَم التكيف.

خذ مثلا المدرس الذي تعطيه الدولة راتباً لا يوفي أدني ضرورات الحياة ثم تترك له المجال للعمل في الدروس الخصوصية برغم مخالفتها لقوانين السلطة ذاتها.! وهذا نمط يخضع لمنطق الحيلة في سبيل التكيف.

وهناك نمط أسوأ يقوم بالاحتيال في سبيل التكيف ، مثل أي موظف في قطاعات الدولة لا تعطيه الدولة راتبا يكفي أدني ضرورات الحياة وتتركه يستكمل راتبه من الرشوة والسرقة بعلمها وعلم الجميع.

وكلا النمطين سواء بالحيلة أو بالاحتيال في سبيل التكيف يجد له مكانا في مجتمع يدور في فلك احتيال المواطنين بعضهم علي بعض لتظل السلطة ومن يدور في فلكها آمنين مطمئنين علي استئثارهم بالسلطة والثروة.

أما من يحاول التمرد علي تلك الأوضاع البائسة فنصيبه الإقصاء والتهميش ، إن لم يكن السجن والتشريد.

ويظل التكيف ينتقل بالعدوي والتأسي : (ولَوْلا كَثرَة ُ الباكينَ حَوْلي على اخوانهمْ لقتلتُ نفسي).

وينتقل من جيل لجيل : (... بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ? ...)

ويبقي الناظرون لهذا الوضع البائس يشاركون سيدنا "علي" عجبه ممن لا يملك قوت يومه كيف لا يخرج علي الناس شاهرا سيفه.!

وينقضي العجب حين ندرك أن التكيف مع الوضع البائس بحالاته الثلاث: (العجز - الحيلة - الاحتيال) هو بالنسبة للمتكيفين أقل كلفة من التمرد ، فالإنسان العاجز الذي أنهكه الفقر وأذله العَوَز لا يقوي علي التمرد ، وصاحب الحيلة والمحتال مقتنع بأن التكيف مع الوضع البائس هو أولي من عصفور علي الشجر يبشره به المتمردون المتهورون.!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين