الاحتلال الإسباني الفرنسي للمغرب -3-

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين , وبعد ..

فمع حسن ظن الأمراء المسلمين السابقين وصفاء سريرتهم ونقاء سجيتهم وسماحتهم التي كانت تتعدى الحد المسموح به ؛ فينقلب نفعها ضررا ، وافقوا على منح أبناء الدول الأخرى عدة امتيازات كانت في رأيهم لصالح الدولة الإسلامية ، وتعبيرا عن سماحة الإسلام ، معتمدين في ذلك على قوة دولتهم ، وأنه لا خوف عليها ، ومن ذلك منح الوافدين إليها ممن لهم علاقة سياسية معهم نظاما سياسيا وقضائيا خاصا يخالف قانون البلد المعمول به ويسيري على جميع مواطنيها  ، فيصيرون غير خاضعين لقوانينها ، ولا ملزمين بأداء ما يجب على سائر مواطنيها من أداء الضرائب والقيام بما يقومون به من خدمات وطنية ..

وصارت تمنح لهؤلاء الأجانب حماية خاصة بموجب اتفاق يبرم بين دولهم والدولة المعتمدين عليها ، أو بمقتضى أي اتفاق يبيح ذلك لدولة أخرى ، ويحقق لكل دولة صديقة أن تتمتع بما فيه من فوائد وامتيازات ..

وكان هذا نظاما غريبا وعجيبا لا يقبله صاحب المنطق السليم ؛ لأنه يتنافى مع سيادة الدولة وانبساط سلطانها وقوة قوانينها وأحكامها التي يجب أن تطبق على جميع المقيمين فوق أرضها ، سواء أكانوا وطنيين أصلاء أو أجانب دخلاء .

ولكن الحكام المسلمين للأسف لجئوا إليه مبالغة في إظهار السماحة لديهم مع الآخرين مع الثقة المفرطة في قوتهم ، تلك الثقة التي أعمتهم يومئذ عن إبصار أضراره الجسيمة عليهم في المستقبل ، واستغله الأوربيون أسوأ استغلال ، حيث جعلوه قيدا حول رقبة المسلمين يمسكون بطرفيه بعد أن آنسوا في أنفسهم قوة وفي المسلمين ضعفا  .

ظهور نظام  الحماية بالمغرب العربي :

كان هذا النظام قد ظهر أولا في الدولة العثمانية التي كانت تحد بالأوربيين من أكثر جوانبها وفي حاجة للتعامل الاقتصادي معهم ، لكن المغرب العربي رفضه في بداية الأمر ، لعدم حاجة البلاد إليه ، ولأن حكامه كانوا يلتزمون بالشرع الإسلامي لا يرون عنه بديلا ، وليسوا في حاجة لأن يفرطوا في أحكامه إرضاء للآخرين ، فهم في منعة عسكرية بقوتهم التي استعصت حتى على العثمانيين ، وبقوتهم الاقتصادية حيث كانت موانيهم ومراسيهم المتعددة مع موارد الدولة الداخلية توفرا لهم دخلا عظيما .

وكلما طالب بهذا النظام الأجانب في سبيل عقد اتفاقيات التعاون والتجارة قابلهم السلاطين بالرفض ، مبررين رفضهم بما يرونه فيه من مساس بسيادتهم واستنقاص من قدر الشريعة الإسلامية التي يعدون أنفسهم حماتها ، ويتقبل رعاياهم أحكامها بكامل الرضا ، ويرون فيها جملة وتفصلا منتهى ما يجب أن يتوفر في الشرائع من سمو وكمال .

وظل الأمر هكذا حتى ساءت الأحوال وتدهورت الأوضاع بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل ، وقصرت الأفهام عن إدراك أبعاد بعض المطالب التي تبدو وكأنها لا تحمل في طياتها شرا ، ولا يكمن في ثناياها سوء يهدد كيان الدولة والمجتمع ، فبدأت الامتيازات التي منها الحماية الدبلوماسية والقنصلية تمنح للدول الأجنبية مجاملة وتكرما أو غفلة وجهلا ، أو استخفافا بأمور بدت في إبانها غير ذات أهمية ، وكان الحزم واليقظة يفرضان عدم الاستخفاف بما فيها من خطر وضرر. (1)  

وتعد المعاهدة المغربية السويدية التي وقعت 16 مايو 1763 م الاثنين 3 من ذي القعدة عام 1176 هـ من أول الأخطاء التي وقع فيها المغرب ، حيث نص فصلها الخامس عشر على أن للسويديين أن يجعلوا من القناصل ما يريدون ويختارون بأنفسهم .

كما أن لهم أن يجعلوا من السماسرة ما يحتاجون إليه ... وكل من انضاف إليهم من أهل الذمة وغيرهم ممن يقضون لهم أغراضهم لا يكلفون بوظيف ولا مغرم فإنها لا تقسط عن أهل الذمة ، كما نص فصلها السابع عشر على أن القنصل السويدي هو الذي يفصل في الخصومات التي تنشأ بين رعايا دولته حسب شريعة بلده ، وإذا حدث خصام بينهم وبين غيرهم فالحاكم المغربي والسويدي يفصلان نازلتهما .. .

وكما رأينا يعطي الفصلان المتقدمان للسويد حق اختيار سماسرة من بين الرعايا المغاربة بالقدر الذي يحتاج إليه تجارها لترويج تجارتهم بالمغرب ، ويعفى هؤلاء السماسرة وكل من انضاف إلى قناصلها وتجارها من المستخدمين والأعوان المغاربة من جميع الضرائب والتكاليف .. كما يسمحان بإنشاء محاكم قنصلية تفصل فوق أرض المغرب بين السويديين بشريعة بلدهم .

ثم جاءت المعاهدة المغربية الفرنسية التي أبرمت يوم 28 مايو سنة 1767م  30 ذي الحجة عام 1180 هـ لتزيد من طمع الأجانب التدريجي في المغرفة والانتقاص من سيادتها ، حيث نص الشرط الحادي عشر منها على أن من استخدمه قناصل فرنسا من كاتب وترجمان وسماسرة وغيرهم لا يتعرض لهم بوجه من الوجوه ، ولا يكلفون بشيء من التكاليف في نفوسهم وبيوتهم كيفا كانت هذه التكاليف ، ولا يمنعون من قضاء حاجات القنوصات والتجار في أي مكان كانوا .

ومع إن عبارة ( لا يتعرض لهم ) وعبارة ( لا يمنعون ) لم تفيدا حتما منح الحماية الفرنسية لهؤلاء المستخدمين والسماسرة وعدم خضوعهم لقوانين البلاد وسلطة الولاة ، وإنما تفيدان فقط قيامهم بالخدمات دون عائق ولا مانع لفائدة مستخدميهم فإن قناصل فرنسا وممثليها لم يأولوها إلا بالحماية وأصروا بغير حق على هذا التأويل .

ولم تقتصر المعاهدة على هذا الامتياز وحده ، بل تضمنت امتيازات أخرى كعدم حكم القاضي الشرعي فيما ينشأ بين المغاربة والفرنسيين من نزاع ، وعدم حكم السلطان نفسه أو أحد من عماله إلا بحضور قناصلهم الذين يتولون الدفاع عنهم .

كما أن المعاهدة لم تحصر عدد من يستخدمهم قناصل فرنسا من المغاربة والذين تنسحب عليهم بسبب خدمتهم معهم حمايتها ، كما لا يمكن حصرهم في الكتاب والتراجمة والسماسرة ؛ لأن كلمة ( وغيرهم) التي وردت بعد كلمة السماسير تفتح بابا واسعا يلج منه كل من يعمل مع الفرنسيين حتى ولو كان جاسوسا لهم على أمته ودولته ، فوكل عددهم إلى حاجة الفرنسيين منهم مهما بلغ العدد ما بلغ .

وإذا علمنا أن هؤلاء القناصلة لم يقوموا بالمهام السياسية فقط ، وإنما كانوا يقومون إلى جانب ذلك بالتجارة لحسابهم الخاص تصديرا وتوريدا ، وأن حماية السماسرة كان يشمل حماية مصالحهم الخاصة ما داموا يعملون لحساب القنصل ، أدركنا أي شر فتحه المغرب على نفسه بمنحه هذا الامتياز الذي يبيح لدولة أجنبية أن تتدخل منه في شئونها باسم الدفاع عن مصالح تختلط فيها الشخصية بالدولية , وتغلب الأولى على الثانية في أكثر الأحيان .

وجاءت بعد ذلك المعاهدة المغربية الدنماركية سنة 1767م والتي أمضيت يوم 28 صفر عام 1181هـ وفتحت أبواب المغرب على مصارعها أمام التجار الدنماركيين ، فلهم أن يقدموا إلى المغرب ويذهبوا فيه حيث شاءوا بائعين مشترين ، ويسكنوا في أي مدينة شاءوا من غير تحديد عليهم بسكنى مدينة دون غيرها ..

ثم جاءت معاهدة الحماية البريطانية في العاشر من ربيع الآخر عام 1273 لتزيد عن المعاهدات السابقة في إقرارها حق البريطانيين في السفر والاستقرار والسكنى حيث شاءوا من المغرب ، دون تعرض ولا منع من أحد وإعفائهم من الضرائب ، واحترام ديارهم ومنازلهم ومتاجرهم ، وعدم تفتيش سجلاتهم التجارية ورسائلهم إلا بإذن القناصل وموافقتهم .

وزيد على ذلك أن هؤلاء البريطانيين الذين سيسكنون المغرب إذا حصل خصام بين أحدهم وبين مغربي لا ترفع دعوى الخصام من أحد الطرفين إلا إلى القنصل  ، فإن كان صاحب الدعوى المغربي يرفعه الوالي إلى القنصل ، أي كأن القنصل هو صاحب السيادة الأولى لا تعقد المحكمة إلا بعد العرض عليه .

بل جعلت المعاهدة من الحكومة المغربية شرطة لها ، فقد جاء فيها : قيام ولاة المغرب باعتقال من يأمر القناصل البريطانيون باعتقاله ونقله إلى الجهة التي يريدون نقله إليها .

ولذلك يرى المؤرخون أن تلك الاتفاقية كانت مرحلة حاسمة في مسار إدماج المغرب في السوق الأوربية ..

وكان سبب هذه الاتفاقية هزيمة إيسلي التي ولّدت لدى البريطانيين رغبة في الحفاظ على سيادة أسطولهم البحري في البحر الأبيض المتوسط وعلى القيمة الإستراتيجية لجبل طارق، فتظاهروا بالوقوف إلى جانب المغرب من الناحية السياسية، وحاولت إقناع نخبه وحكامه بالقيام بإصلاحات عميقة في بنيات الدولة وأسلوب الحكم ، فكان تكليف الوزير البريطاني جون دريموند هاي الذي كان يقيم في طنجة يومها، بتحقيق الأهداف التي كانت تنشدها بلاده من وراء هذا التحرك.

وكانت بريطانيا تسيطر ـ وقتها ـ على مصر والسودان، وكانت تريد أن تبقي سيطرتها على جبل طارق وعلى تفوق أسطولها البحري، وبينها وفرنسا تنافس شديد.

 والخطير في تلك الاتفاقية أنها غيّرت جذريا الإطار القانوني الذي ألقى بثقله على العلاقات المغربية الأوربية، إذ عممت الإجراءات الجديدة التي حصل عليها الإنجليز بشكل آلي على القوى الأجنبية الأخرى مبدأ الدولة الأكثر رعاية ، بل إنها وضعت وبشكل نهائي حدا لسيادة السلطان ، وسحبت منه كل إمكانية ممارسة حقوقه على التجارة البحرية بالرغم من الصلابة التي أبان عنها المفاوضون المغاربة مع الانجليز، وتظهر سلبيات تلك الاتفاقية فيما يلي:

 - لقد أدى إجراء مبدأ حرية المبادلات غير المقيدة (باستثناء بعض المواد المحظورة كالأسلحة والذخيرة والرصاص وملح البارود والتبغ) إلى فقدان المراقبة على التجارة الخارجية غير المرتبطة بالقوافل التجارية ، وأيضا التخلي عن صلاحيات السلطان التي يتمتع بها في التحكم في الواردات والصادرات ، وذلك حسب حاجيات البلدان والظروف الطبيعية المتحكمة في المنتوج الفلاحي (على سبيل المثال الحظر التام لسوق الحبوب والزيوت والأبقار والأصواف في السنوات العجاف).

ـ تحديد رسوم ومكوس الأبواب على الواردات بشكل موحد في 10% من مجموع رسم القيمة بدل تلك التي كانت مطبقة في السابق ، والتي لا تقل عن 50 % في المتوسط، وبجانب ذلك يتم دفعها بالسيولة النقدية، وقد أدى هذا الوضع إلى الانخفاض السريع لحجم المداخيل التي كانت تسجل في الفترة السابقة لسنة 1856 وآلت الوضعية إلى نتائج كارثية تمثل أهمها في إغراق الأسواق المغربية بالمنتوجات الأجنبية (لقد انتقلت قيمة الواردات من 7 ملايين سنة 1854 إلى 6,24 مليون سنة 1857). فحصل نوع من الاختلال في الميزان التجاري (في سنة 1855 كان حجم الفائض هو 8 مليون فرنك. وقدر العجز في سنة 1857 بقيمة 4,2 مليون فرنك) وقد خرجت القيمة الحسابية المخصصة لتغطية هذا العجز بشكل خطير بسبب تدهور قيمة الصرف المسجل على حساب العملة المغربية نتيجة انتشار المضاربات من التجار.

ـ أدى تحرير القطن الذي كان يشكله مركز سيادة السلطان إلى وضع الحد للنسق الإمبراطوري. فقبل سنة 1856 مكن حق الامتياز بالمتاجرة في بعض المواد السلطان مولاي عبد الرحمن، الذي كان وبدون شك قد استلهم أسلوب التصرف نفسه من محمد علي باشا بمصر، قد أحدث نوعا من رأسمالية الدولة المدعمة من طرف بيت المال ، وأدى إلى تفعيل أقلية من الفئة التجارية التي امتازت بدينامية قوية (تجار السلطان).

ـ أحدثت الحصانة القنصلية التي منحت للرعايا الأجانب بجانب الاعتراف بوضع قانوني خاص للسماسرة المحليين المتعاملين مع أولئك الأجانب أوضاعا خاصة انصبت في اتجاه تحويل معاملات فئة تجار السلطان القدماء ومجهوداتهم وخبرتهم لصالح المؤسسات والشركات الأوربية.

والخلاصة أن نتائجها كانت سلبية على التجارة المغربية، إذ سمحت بتدفق السلع الأجنبية، ونضوب السلع الحيوية في السوق المغربية، كما أن تواجد التجار الأجانب ساهم في رصد أحوال البلاد و التعرف على مكامن ضعفها .

ثم إنها مهدت لتوقيع اتفاقية لا تقل خطورة عنها، بين فرنسا  والمغرب هي معاهدة بيكلار في سنة 1863 التي نصت على تقنين وضعية المحميين في المغرب، والتي شملت السماسرة التجاريين، موظفي السفارات والقنصليات، وكل أفراد عائلتهم، وكل من يقصد بيوتهم، وبالتالي لا يتعرض السلطان لهم في المخزن في تأدية ضريبة أو غرامة، هذا يعني أنه أصبح في المجتمع المغربي فئة المحميين الذين لا يشملهم السلطان بأحكامه وقراراته.

وحين اشتكى المغرب في عهد السلطان مولى الحسن الأول إلى الأوربيين ما ترتب عن المعاهدتين المبرمتين مع بريطانيا في 1856 وفرنسا  في ,1863 تم عقد مؤتمر في مدريد  سنة 1880 ( الذي سنتناول الحديث عنه فيما بعد ) في سياق تلك الضغوطات والتهافت الاستعماري، طلب السلطان الحسن الأول من الأوربيين إعادة النظر في أمر المحميين لتزايد عددهم وتهربهم من الضرائب وغيرها، مما أثار فتنا داخلية، غير أن الأوربيين تجاهلوا طلب السلطان، وثبّت المؤتمر شروط المعاهدات السابقة. 

ـــــــــــــــــ

1 ـ مشكلة الحماية القنصلية بالمغرب من نشأتها إلى مؤتمر مدريد لـ عبد الوهاب أبو منصور ص 8  .

المصدر : موقع التاريخ

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين