المسجد الأقصى المعيار الأدق لحال الأمة -2-

 

إنه لمن المؤلم والمحزن أن تتحوّل قضية الأقصى إلى ورقة للمتاجرة، يتاجر بها الطغاة قبل غيرهم وهم الذين أضعفوا الأمّة وأهانوها ومزّقوا جسدها وقطّعوا أوصالها، فإنك لو جمعت «الخطابات التاريخية» التي ألقيت في المناسبات الوطنية والقومية والدينية من أولئك «الزعماء التاريخيين» لأدركت أن هؤلاء على كثرة اختلافاتهم وخصوماتهم قد اجتمعوا على شيء واحد وهو المتاجرة بالأقصى، واتخاذه أداة من أدوات التسويق لسياساتهم الفاسدة والترويج لبضائعهم الكاسدة، والشعب الفلسطيني يتطلع إلى هذا وإلى هذا؛ جيش القدس، ويوم القدس، وحزب الله وآية الله، وجبهة المقاومة ومحور الممانعة، فيحصل المساكين على الفتات بينما يذهب الزخم الأكبر لضرب الأمة وتدميرها والإجهاز على ما تبقى من مقوّمات الصمود وأسباب النهوض فيها. 

لا أنسى تلك السيّدة الفاضلة التي لقيتها في بيروت سنة 2006 يوم كان كبار العلماء والدعاة يتنادون لمناصرة حزب الله، استقبلتني في مكتبها وتحدّثت حديثاً مطوّلاً لا زلت أتذكره وهي تستغرب من حال هؤلاء اللاهثين خلف كل سراب، وكان مما قالت: «عن أي مقاومة يتحدّثون بعد أن دمّروا بغداد؟ هذه عمائمهم وراياتهم وفتاواهم تدخل مع الجيش الأميركي لتستبيح العراق ثم نصدّق أنهم يريدون تحرير فلسطين؟.. يقولون لنا لماذا لا تساندون المقاومة؟ فقلنا لهم أعلنوها مقاومة باسم الأمة لا باسم الحزب ولا الطائفة ولا باسم أية راية فئوية أو عنصرية وسنكون في مقدمة الصفوف، نحن نريد مقاومة باسم الأمة ولا نريد أن نكون وقوداً رخيصاً للمشاريع المشبوهة التي تتخذ من القضية الفلسطينية مركباً لها». 

نعم إن أخطر ما يمكن أن تتعرّض له القضية الفلسطينية هو هذا، لقد كنت أستمع لأحدهم وهو يعقّب على انتهاكات الصهاينة المجرمين في الأقصى: «لقد انشغلت الأمة بقضايا جانبية»، وهو يشير إلى ما يجري في العراق وسوريا واليمن! هكذا، فمحو مدينة مثل الموصل أو مثل حلب لا يراه هذا الأخ يستحق الانشغال، وهو بهذا يظن أنه يخدم قضيته الوطنية «فلسطين»، ولست أدري من هي هذه الأمة التي يعنيها إن أسقط منها العراق والشام واليمن؟ 

يا أخي والله إن بداية الطريق لتحرير الأقصى لن تكون إلا بهذا الانشغال الذي تشكو منه والذي هو غير موجود أصلاً، ويا ليتك شكوت من انشغال الناس بالترهّات التي يغدق عليها من ثروات الأمة ما لو أنفق بعضه لأنقذ الملايين المشردين من إخوانك وأخواتك في الموصل وحلب وتعز، ولسدّ حاجة أهلك في القدس وغزة، أما إن كنت تظن أن الميليشيات الطائفية التي دمّرت كل هذه الحواضر الإسلامية أنها ستساعدك في استرداد أرضك فأنت واهم. 

نعم إن دعم صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الأسطورية الشجاعة هو واجب كل مسلم على أقل تقدير لبقاء القضية حية في الضمائر، ولمشاغلة العدو لأطول مدة ممكنة، وأخطر ما يرد في هذا السياق هو عزل هذه القضية وتشويه نصاعتها وبياض ثوبها بتجاذبات وتحالفات تجعل هذه القضية المقدّسة وكأنها بالضد من قضايا الأمة وجراحها النازفة. 

إن كل قضية تحتمل قدراً من المجازفة وفق قانون الربح والخسارة، ومقولة أهل مكة أدرى بشعابها إلا قضية الأقصى فإن قوتها بقداستها وربحها ببقائها حيّة متجددة في ضمير أمتها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين