صلة الرَّحِم من أسباب سعة الرزق

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الله خلقَ الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصِلَ من وصلكِ، وأقطعَ من قطعكِ؟ قالت: بلى يا رب. قال: فذلك لكِ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ] {محمد:22-23} ). رواه البخاري ومسلم.

الألفاظ:

الرَّحِم: أسباب القرابة، وأصلها منبت الولد ووعاؤه في البطن، ثم أطلق اللفظ إطلاقاً خاصاً في علم المواريث على الأقارب من جهة النساء، ويقال ذو رحم مَحرم، وهو من لا يحل نكاحه كالأم والبنت والأخت والعمة والخالة.

العائذ: المستعيذ، وهو المعتصم بالشيء المستجير به.

القطيعة: الهجران والصد، وهي من القطع، يراد به ترك البر والإحسان إلى الأهل والأقارب، وهي ضد صلة الرحم.

المعنى:

إنَّ الله تعالى جعل بين الناس ضروباً من الصلات يتراحمون بها ويتعاونون على دفع المضار وجلب المنافع في ظلها، وأقوى هذه الصلات، صلة القرابة التي تجمعها الرحم، ويوثق بينها النسب والصهر.

وقد أبان الإمام علي كرم الله وجهه فضل هذه الصلة من كلمة له يحثُّ فيها على صلة الأرحام فقال: (ولا يستغني الرجل، وإن كان ذا مال وولد، عن عشيرته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، هم أعظم الناس حيطة من ورائه، وإليهم سعيه، وأعطفهم عليه إن أصابته مصيبة، أو نزل به بعض مكاره الأمور).

لهذا كله أمر الدين بصلتهم، وحثَّ على كمال العناية بهم، فقال تعالى: [وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ] {النساء:1}.

وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: (لا يدخل الجنة قاطع رحم).

وقال أيضاً: (مَن سَره أن يُبسَط له في رزقه، ويُنسَأ له في أجله فليصل رحمه).

يريد صلى الله عليه وسلم: يبارك له في عمره، فيوفقه للطاعات، وتعمير أوقاته بما ينفعه في آخرته، ويصونها عن الضياع فيما لا خير فيه، من التنازع والتباغض والتحاسد.

وصلة الرَّحِم هي التودد إلى الأقارب، ومعاونة محتاجهم بالمال والجاه وعيادة مرضاهم، وتخفيف آلامهم، ومشاركتهم في فرحهم وحزنهم، وإظهار البشر والسرور بلقائهم، وبذل المساعدة الممكنة لهم، وحمايتهم، ودفع الأذى عنهم.

وبعض هذا هو من الحقوق العامة الواجبة للناس على الإنسان، إلا أن صلة الرَّحِم تقتضي منه أن يزيد أقاربه منه، ويقدمهم على سواهم، ويخصهم بالفضل وحدهم حين لا يكون في طاقته رعاية غيرهم، إذ هم أقرب إلى نفسه، وألصق به ممن عداهم.

قال صلى الله عليه وسلم: (الرَّحِم لها حُجنة كحجنة المغزل) (والحجنة هي الحديدة المعقفة في رأس المغزل).

فأراد عليه الصلاة والسلام أن الرَّحِم لها علائق يعتلق بها، وشوابك يجتذب بوصلها، فكأنها تستعطف المعرض عنها وترد الشارد إليها، كما يجتذب الإنسان الشيء بالمحجن إلى جهته، أو يثني به الذاهب عن وجهته.

وروى مسلم عن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقْن يا معشر النساء ولو من حليكن) قالت: فرجعتُ إلى عبد الله بن مسعود فقلت إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم، فقال عبد الله: بل ائتيه أنت، فانطلقتُ فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُلقيت عليه المهابة، فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله، فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما (أي ولايتهما وتربيتهما) ولا تخبره من نحن؛ فدخل بلال رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال له رسول الله: من هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب. فقال له رسول الله: أي الزيانب؟ فقال: امرأة عبد الله بن مسعود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة).

وعن أبي ذر رضي الله عنه فيما رواه مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمَّى فيها القيراط (قال العلماء: القيراط جزء من الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به) فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمَّة ورحماً).

قال العلماء: الرَّحِم التي لهم كون هاجر أم إسماعيل صلى الله عليه وسلم منهم.

وروى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرَّحِم ثنتان: صدقة، وصلة).

وإنما حثَّت كل هذه الأحاديث على صلة الرَّحِم، وشددت في الأمر بها لأمور:

 منها: أن المجتمع لا يخلو من القوي والضعيف والغني والمحتاج، ولا تقوم الحياة فيه إلا على نظام من التعاون الوثيق يقضي بمساعدة القوي للضعيف، والغني للفقير، ولو ترك أمر التعاون للأفراد يتوجهون به حيث يشاءون من غير إرشاد ولا تنظيم لاختل التوزيع، فأخذ فريق من الضعفاء والفقراء أكثر من حاجتهم، وحُرم آخرون، فوصى الدين بأن يبدأ في توجيه البر والإحسان والمعونة بذوي القرابة قبل غيرهم، لأنهم أحق وأولى من سواهم كما بيَّنا فيما سبق.

وفي هذا تنظيم لتوزيع المساعدة والإحسان في المجتمع، له الأثر المحمود، إذ لا يكاد يوجد ضعيف أو فقير من غير أن يكون له أقارب، ولو عمل الناس بأمر الدين في هذا ما وجد بائس ولا مستجدٍ ولا محرم، وما انتشرت العداوة والحسد بين الأقارب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول).

ثم إن النفس بفطرتها ضنينة بالمال والمعونة لا تكاد تقدمهما عن طيب خاطر، فلابد من دُربة ومرانة على بذلهما، فإذا سلكت سبيلهما مع الأهل والأقارب ألفت البذل وتعودته، وسهل عليها بعد ذلك أن ترقى ببرها وإحسانها إلى نطاق أوسع هو المجتمع، فتبذل المال والعون لفقرائه ومحتاجيه، ولو لم يكونوا من ذوي القرابة، وإنما كان البر بالأقارب والإحسان إليهم هما الوسيلة لرياضة النفس على البر العام، وتعويدها الإحسان إلى المجتمع، لأن الروابط الطبيعية (في الدم، والجسم، والمزاج ) تجعل المرء أكثر ميلاً إلى أقاربه، وعطفاً عليهم، وتفهماً لأحوالهم.

وقد بيَّن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعض مزايا صلة الرَّحِم بقوله: (من يقبض يده عن عشيرته فإنه يقبض عنهم يداً واحدة، وتُقبض عنه أيد كثيرة، ومن بسط يده بالمعروف ابتغاء وجه الله تعالى يخلف الله له ما أنفق في دنياه، ويضاعف له في آخرته، واعلموا أن لسان صدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال، فلا يزدادن أحدكم كبرياء ولا عظمة في نفسه، ولا يغفل أحدكم عن القرابة أن يصلها بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه).

بل يجب على المؤمن أن يجتنب القطيعة بين الأقارب، لأنها تؤدي إلى ضعف المسلمين وتخاذلهم، وعدوان بعضهم على بعض، وانصرافهم عن العمل الصالح المثمر، إلى التفكير في الشرور والأذى، فيهون أمرهم، ويطمع فيهم أعداؤهم.

لهذا لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه مدة تزيد على ثلاثة أيام، ولا أن يفعل الأسباب التي تؤدي إلى القطيعة والهجر، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ السلام).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال يا رسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال صلى الله عليه وسلم : (لئن كنتَ كما قلت فكأنما تُسِفُّهم المل – وهو الرماد الحار، أي كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم – ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك).

أما ما جاء في الحديث من قيام الرَّحِم واستعاذتها بالله من قطيعتها، فهذا تمثيل لعظم شأنها وفضل وأصلها، وتصوير لكبير إثم قاطعها وعظيم ذنب هاجرها، وهو أسلوب قد جاء في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى:[لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ] {الحشر:21}. 

فهو تمثيل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر، ثم تصوير لمبلغ قسوة قلب الإنسان وقلة تخشعه عند تلاوته وتدبر ما فيه من القوارع، وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع، والذي يشير إلى كون ذلك من قبيل التمثيل قوله تعالى بعد ذلك: [ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {الحشر:21}.

وما جاء في الحديث من قوله: (أن أصل من وصلكِ) فهو كناية عن قدر إحسانه تعالى ولطفه ورحمته لعبده وعطفه.

وكذا قوله أيضاً: (وأقطع من قطعكِ) فهو كناية عن شدة الحرمان وأليم العذاب الذي ينتظر قاطع الرَّحِم ويجافي الأقارب.

وأخيراً: إن في هذا الحديث لدليلاً على أن الاستعاذة بالله تعالى من أجلِّ الوسائل إلى الله سبحانه وأنجحها إذا حزب الإنسان أمر أو وقع به مكروه، فهو الملجأ للمستغيث، والمنجي للمكروب.

ألا ترى إلى قول الرحم: (هذا مقام العائذ بك) فسرعان ما أسعفت بما رضيت به، ومما يقوي هذا الوجه ما جاء في شأنه العدو الذي قيل له: [وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ] {الإسراء:64} وجعل له أنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه، وجعل لنا النصرة والغلبة عليه بالاستعاذة بالله عزَّ وجل، ولم يجعل بغير ذلك، لقوله عزَّ وجل: [وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] {فصِّلت:36}. وقول مريم عليها السلام حين أتاها روح الله الأمين: [إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا] {مريم:18}. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه: (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد الثامن السنة السادسة، 1352 -1952

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين