المسجد الأقصى المعيار الأدق لحال الأمة1-2

 

المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين الشريفين ومسرى نبيّنا الكريم عليه الصلاة والسلام، والأرض التي باركها الله وبارك ما حولها، قد شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعله معياراً لحال هذه الأمة ووزنها أمام الأمم الأخرى، فكلما كانت مهابة عزيزة الجانب كان الأقصى مهاباً عزيزاً كذلك والعكس بالعكس أيضاً، وهذا التاريخ يشهد بهذه الحقيقة منذ الفتح الأول على يد الصحابة الأبرار رضي الله عنهم إلى اليوم. 

لم يكن هنالك من يجرؤ على أن يمس الأقصى بأدنى سوء أيام عبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز، ولا أيام الرشيد والمأمون والمعتصم، ولا أيام محمد الفاتح وسليمان القانوني وعبد الحميد الثاني، فلقد كانت الأمّة من أقصاها إلى أقصاها تطير خلف هؤلاء لنجدة امرأة واحدة ولتأديب باغ واحد فكيف لو فكّر أحد ما، مهما علا شأنه وكثر قومه، أن يقترب من أسوار الأقصى وترابه الطاهر؟ 

نعم حصل ذلك أيام غياب الأمّة وتحوّلها إلى إمارات متناحرة متخاصمة فامتدّت يد الأوربيين تحت شعار الصليب لتخطف المسجد الأقصى وتعيث فيه خراباً وفساداً، وقد بقي على هذه الحال لعقود طويلة معبّراً بصدق عن حال الأمة في هوانها وشتاتها، حتى بدأت صحوتها من جديد على يد آل زنكي ثم الأيوبيين، وبدأت تجمع شتاتها وتستصرخ إيمانها ونخوتها، وقد كانت صرخة صلاح الدين في ذلك الوقت «إن فتح الموصل إلى بيت المقدس موصل»، وكان مستشاروه يستحثونه على إكمال مشروعه في النهوض بالأمة وتوحيد قواها قبل التوجّه إلى القدس، ومن لطائف القدر أن تكون الموصل وحلب المقدّمتين الكبيرتين لفتح القدس، حيث سار صلاح الدين بعد فتح الموصل إلى حلب ومن حلب إلى القدس فقال شاعره آنذاك: 

وفتحكم حلب الشهباء في صَفر 

مبشّر بدخول القدس في رجب 

لقد تمكن صلاح الدين من بناء جبهة قويّة تمتد من مصر إلى الشام والعراق كل ذلك وهو في هدنة مع الصليبيين لم يحسم أمره معهم حتى جمع أشتات أمته وقضى على الفتن الداخلية وبنى منارات العلم والتقى ومحاضن التربية الإيمانية النقيّة الصحيحة، فكان فتحه للقدس ودخوله المسجد الأقصى تتويجاً لهذا المشروع النهضوي الوحدوي الكبير. 

اليوم حينما تتجرّأ حفنة من شذّاذ الآفاق على الأقصى فإنهم في الحقيقة لا يتجرؤون على الأقصى ولا على المقدسيين أو الغزّاويين وإنما هي صفعة على قفا هذه الأمة الغافلة التائهة المبعثرة بملايينها الممتدة من جاكرتا إلى نواكشوط ومن اسطنبول إلى حضرموت. 

إن الأمة التي تتفرّج على نسائها الهائمات على وجوههنّ في الموصل وحلب، وعن الآلاف الذين يزحفون يومياً قاصدين اللجوء إلى أوربا، وعن مئات المآذن والقباب التي تهدّم على رؤوس المصلين، كيف يرجى منها أن تلتفت إلى حواجز يقيمها اليهود على مداخل الأقصى أو رصاصة تخترق جسد طفل أو طفلين في القدس أو غزة؟ 

إنه ليس عيباً على الضعيف أن يتغلب عليه القويّ، فالزمن هكذا دوّار وغدّار، إنما العيب حينما يستمتع المغلوب بحاله، ويضحك ملء شدقيه ورأسه تحت حذاء ظالمه، فلا يحس بألم في صدره ولا بثقل على رأسه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين