الرجاء في الله تعالى -1-

 

 الوجود الذي نحسه، وما يكمن في تضاعيفه من لطف وبر، هو نعمة محض لا علة لها إلا محض الفضل الأعلى.

 إن المرء ينام وتبقى في عروقه وأعصابه عشرات القوى التي تضبط حياته لا تهن ولا تسكن.

 من الذي استبقاها يقظة دائبة؟ بل من الذي أبدعها ابتداء من صميم العدم؟ إنه الله.

 إنه تعالى لم يخلقك إثر سؤال منك، ولم يشرف عليك وأنت جنين، ثم وأنت رضيع لأنك طلبت منه ذلك، إنه سبحانه فعل بك ذلك لأنه من ذاته منعم وهاب واجد ماجد.

 ولو كان تعالى يدير الأمور وفق الأسئلة والرغبات لاندكت الآفاق وسرت الفوضى في كل ناحية.

 إنه جل وعلا أرحم بالعباد من أنفسهم وأعرف بمصالحهم من منتهى تفكيرهم وعطفه السابق على مقدرات الخلائق هو الذي يسير الحياة، ويشيع فيها الخير، ويضمن لها البقاء.

وفى هذا يقول ابن عطاء رحمه الله تعالى: (جل حكم الأزل أن ينضاف إلى العلل عنايته فيك لا لشيء منك، وأين كنت حين واجهتك عنايته وقابلتك رعايته؟، لم يكن في أزله إخلاص أعمال ولا وجود أحوال، لم يكن إلا محض الإفضال وعظيم النوال).

 إن الفضل ينبثق من ذي الجلال والإكرام لأن ذلك وصفه كما ينبثق الشعاع من الشمس ولله المثل الأعلى لأن طبيعتها الاتقاد.

 إن الملك الجليل الشأن الذي انبسط سلطانه على كل شيء فهو في السماء إله وفى الأرض إله، ويعطى ويغدق لأن الكمال نعته سواء عرف البشر ذلك أم أنكروا.

 وعطاؤه على قدر عظمته، ومن ثم فهو أحق من يرجى ويقصد!!

 إن البشر يتهافتون على من يأنسون فيه القوة والغنى التماس جداء وابتغاء نداء، ولو عقلوا لعلموا أن ما لديه قطرة معارة، وأن أحق من يشدون إليه الرحال ويربطون به الآمال، هو الكبير المتعال.

 إن الأساس في طبائع البشر طراً، مهما سمت مناصبهم وبدت قدراتهم، أنهم يأخذون لا يعطون.

 أليسوا فقراء إلى الله تعالى، عالة على فضله سبحانه؟ فالاتجاه بالرجاء إليهم طيش.

 أما الرجاء في الله تعالى فعمل وافق موضعه وأصاب هدفه.

 ثم إن جمهرة البشر حين يسألون تتحرك فيهم صفاتهم الفطرية، فهم بين جاهل بحال السائل، أو عالم بها عاجز عن علاجها، أو قادر يمنعه شح نفسه عن الإجابة.

 وتلك كلها آفات منفية عندما يتجه الرجاء إلى الله جل جلاله.

 ولذلك ترى أولي الألباب يقصدونه تعالى بالمطالب الجسام وهم راجون ألا ينقلبوا عن ساحته إلا راضين...

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى  : خلقت لي همة عالية تطلب الغايات.

 بلغت السن وما بلغت ما أملت، فأخذت أسأل تطويل العمر، تقوية البدن، وبلوغ الآمال، فأنكرت على العادات وقالت: ما جرت عادة بما تطلب، فقلت: إنما أطلب من قادر على تجاوز العادات، وقد قيل لرجل: لنا حويجة فقال: اطلبوا لها رجيلاً، وقيل لآخر جئناك في حاجة لا نرزؤك، فقال: هلا طلبتم لها سفساف الناس؟ فذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا فلم لا نطمع في فضل كريم قادر"؟.

ترى ما هي العظائم التي نقف بباب الله تعالى راجين أن نثوب بها؟ ما هي الأعطية الجزلة التي نتمنى على الله سبحانه قضاءها، ونراه جل شأنه أهلاً للإفضال بها وبأضعافها.

 إن كل أمرئ يحب ألا يدع شيئاً من خير الدنيا والآخرة إلا امتلكه.

 ولو أن الله تعالى منح العباد ما يشتهون من ذلك كله ما تعب، ولا نقصت خزائنه.

 غاية ما يجب أن نتصارح به، أنه لا يجوز أن نطلب إثماً ولا جهلاً ولنضرب لذلك مثلاً.

إن الحياة الدنيا دار اختبار، وهي ممر لا مستقر، والآخرة عند الله تعالى أزكى منها وأبقى، فإذاً وفد بشر على الله بآماله التي يطلب تحقيقها، وكانت هذه الآمال مضادة لهذه الحقائق كلها، بأن كانت الدنيا في وعيه أرجح من الآخرة وكانت رغبته لا تعدو إشباع نهمته منها وحسب!

 أترى هذا الجاهل يعود إلا بخيبة الرجاء؟.

 إن المشكلة التي يجب أن تنحل في أذهان الناس أولاً هي تصور حقائق الحياتين..!!

 وشيء آخر: ماذا يجاب إليه طفل يحب أن يبقى طول عمره رضيعاً؟ أيحقق له رجاؤه؟ إن أغلب الناس ينزلون في أدعيتهم عند نداء طبائعهم، ولو أجيبوا لعاشوا أطفالاً لا يحملون من أعباء التكاليف شيئاً.

 إن الله تعالى أهل لأن تنزل عليه بكل ما يجيش في نفسك من آمال.

 وإذا كان قد أعطى تفضلاً من غير سؤال، فهل يرد سائلاً جاءه راجياً؟ بيد أننا بحاجة إلى العقل والأناة والتبصر.

أعجبني ما رواه ربيعة بن كعب قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم نهاري، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبت عنده فلا أزال أسمعه يقول: سبحان الله سبحان ربي، حتى أمل أو تغلبني عيناي فأنام، فقال يوما: يا ربيعة سلني فأعطيك، فقلت: انظرني حتى انظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله أسألك أن تدعو الله أن ينجيني من النار ويدخلني الجنة، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من أمرك بهذا؟،  قلت: ما أمرني به أحد ولكنى علمت أن الدنيا منقطعة فانية وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه فأحببت أن تدعو الله لي، قال: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود .

وفى بيان ما يرجو العبد، وتتعلق به همته يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى : دعوت يوماً فقلت: اللهم بلغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمرى لأبلغ ما أحب من ذلك: فعارضني وسواس من إبليس، فقال ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذي ينفع طول الحياة؟.

 فقلت له: يا أبله.

 لو فهمت ما تحت سؤالي علمت أنه ليس بعبث.

 أليس في كل يوم يزيد علمي ومعرفتي فتكثر ثمار غرسي.

 فأشكر يوم حصادي؟.

 أفيسرني أني مت منذ عشرين سنة؟ لا والله، لأني ما كنت أعرف الله تعالى عُشر معرفتي به اليوم.

 وكان ذلك ثمرة طول الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت من حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطلعت على علوم زاد بها قدري، وتجوهرت بها نفسي.

 ثم زاد غرسي لآخرتي، وقويت تجاربي في إنقاذ المباضعين من المتعلمين، وقد قال الله لسيد المرسلين: [وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا] {طه:114}.

 وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً).

 وفى حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة).

فيا ليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل رفع ونفع).

 عندما قرأت كتاب (صيد الخاطر) لابن الجوزي أحسست أن الرجل عبر بكلمات بصيرة بليغة عن خوالج نفسية تحركت في باطني، وسجلت أطرافاً منها قبل أن أطلع على كتابه هذا.

 وربطني بالرجل إلى جانب ذلك أنه مشغول بتعليم الإسلام ونصح الجماهير، وهي الوظيفة التي شرفني القدر بها...

 والناس يظنون في رجال الدين ـ كما يسمونهم ـ جمود الحس، وسواد المزاج، وفقدان القدرة على تذوق الحياة.

 وهذه أوصاف قد توجد في نفر ممن نكبت به الأديان قديماً وحديثاً، وهي موجودة يقيناً في طوائف أخرى، ولكن سوء الحظ جعل النظرة العجلى تتناول خدام الإيمان وحدهم بهذا الاتهام...!!

 وكثيراً ما أبتسم في حرج ونفرة وأنا أرى كثيراً من المعلولين في خلقهم الغموصين في مواهبهم يستطيعون ـ بحكم مراكزهم القوية في المجتمع ـ أن ينالوا منا، وأن يضربوا حولنا أسوارا من حديد لنحيا كما يريدون لا كما تتطلب ملكاتنا وقدراتنا وخبراتنا.

 وكم يكظم الإنسان الآلام في نفسه، وهو مفعم بالأشواق إلى الجمال والعزة والاستغناء، ثم يمد بصره فلا يرى حوله إلا الدمامة والهوان والعيلة.

 وما أغرب الناس، إنهم يشتهون الدنيا، وينحنون لملاكها في ضراعة ووضاعة، وفى الوقت نفسه يحرمونها على علماء الدين؟ ثم يحتقرونهم لفقرهم، ولكل ما يستتبعه الفقر من مسكنة وقلق.

وكم يشعر الإنسان أنه بين نارين، إن سكت عن حقه في الحياة ضاع واستمكن الرعاع من زمامه، وإن طلبه ـ في بيئة ضنينة به ـ قيل: طلب دنيا يزاحم عليها..

إن أمثالنا من الدعاة إلى الله ينقلون أقدامهم بوجل في سبيل مزحومة بالأقذاء والإنكار، لا يعين على السلامة فيها إلا الله تعالى، والذى لا نسأم دعاءه ورجاءه.

 وما أنكر من نفسي أنى أحب الدنيا، ولبئست هي إن كانت مهادنة لظالم أو إغضاء عن منكر.

أما أن تكون دعماً للحق، وغنى عن الأدنياء فنعماً هي...

 إن وجه الرذيلة شائه في بصرنا، وطعمها مر في مذاقنا، ونحمد الله إذ أورثنا كرهها.

 أما طيبات الحياة التي تلهج الألسنة بالثناء، وتبعث الجوارح على الشكر فنعماً هي، وما نستحيى من استحلائها والإكثار منها...

 وربما كان لبعض الناس جلادة على خشونة العيش، واصطبار على كآبة المنظر في الأهل والمال، لكني والله أضيق بهذا وأستعيذ بالله منه.

 ولست أطلب من الله سعة تشغل عنه، بل أطلب سعة تدفع إليه، وكثيراً يحصن من زراية السفهاء، ولعب الكبراء...

 فإن كان ذلك باباً إلى نقص العلم، أو هوان المنزلة يوم القيامة فنرجو أن يجعل الله بيننا وبينه حجاباً غليظاً وأمداً بعيداً...

 جالت هذه الخطرة في نفسي وأنا أقرأ لابن الجوزي رحمه الله تعالى هذه النفثة التي سطرها في كتابه (صيد الخاطر) يصف بها حياته ورجاءه.

 وقلت: ألا ما أقرب الشبه بين عيش وعيش، وأمل وأمل.

 قال: ـ غفر الله لنا وله ـ: (ما ابتلى الإنسان قط بأعظم من علو همته، فإن من علت همته يختار المعالى، وربما لا يساعد الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى في عذاب، وإني أعطيت من علو الهمة طرفاً فأنا به في عذاب، ولا أقول: ليته لم يكن، فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل، ولقد رأيت أقواماً يصفون علو هممهم، فتأملتها فإذا هي في فن واحد، ولا يبالون بالنقص فيما هو أهم، قال الرضى: 

ولكل جسم في النحول بليلة=وبلاء جسمي من تفاوت همتي

 فنظرت فإذا هذا غاية أمله الإمارة.

 وكان أبو مسلم الخرساني في حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له في ذلك، فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفسى تتوق إلى معالي الأمور مع عيش كعيش الهمج الرعاع. قيل: فما الذي يبرد غليلك، قال: الظفر بالملك، قيل: فاطلبه، قال: لا يطلب إلا بالأهوال، قيل: فاركب الأهوال، قال!: العقل مانع، قيل: فما تصنع؟ قال: سأجعل من عقلي جهلاً، وأحاول به خطراً لا ينال إلا بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به، فإن الخمول أخو العدم.

فنظرت إلى حال هذا المسكين، فإذا هو قد ضيَّع أهم المهمات، وهو جانب الآخرة، وانتصب في طلب الولايات، فكم فتك وقتل؟ حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا.

 ثم لم يتنعم في ذلك غير ثمان سنين.

 ثم اغتيل، ونسى تدبر العقل، فقتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال.

 وكان المتنبي يقول: 

وفى الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده 

ولكن قلبا ـ بين جنبي ـ ماله مدى ينتهي بي في مراد أحده يرى جسمه يكسى شفوفاً تربه فيختار أن يكسى دروعاً تهده فتأملت هذا الآخر، فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب.

 ونظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبا.

 وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه، لأني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها، وأريد استقصاء كل فن، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه، فإن عرض لي ذو همة في فن بلغ منتهاه ورأيته ناقضا في غيره، لم أعد همته تامة.

 مثل المحدث الذي فاته الفقه، والفقيه الذي فاته علم الحديث، فلا أرى الرضى بنقصان شيء من العلوم إلا حادثاً عن نقص الهمة.

 ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بشر، وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف، وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيد.

 ثم إني أروم الغنى عن الخلق، واستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم من الكسب وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية.

 ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخلفان نائبين عنى بعد التلف.

 وفى طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد.

 ثم أرني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفى ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثم لو حصل فرق جمع الهمة.

 وكذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم والمشارب، فإنه متعود للترفه واللطف، وفى قلة المال مانع، كل ذلك جمع بين أضداد.

 فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا؟، وأنا لا أحب أن يخدش حصود شيء من الدنيا وجه ديني بسبب، ولا أن يؤثر في علمي، لا في عملي.

 فواقلقى من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف، وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم.

 وما أسفى على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم، ويا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة.

غير أنى قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي، لأن علو الهمة تطلب المعالى المقربة إلى الحق عز وجل، وربما كانت الحيرة في الطلب دليلاً إلى المقصود.

 وها أنا ذا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة، وإن بلغ همى مراده...

 وإلا فنية المؤمن أبلغ من عمله).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين