المنهج القويم للداعية الحكيم (1)

المنهج القويم للداعية الحكيم (1)


د. عبد المجيد أسعد البيانوني

بناء الشخصية الإسلامية المتوازنة، يقتضي أن يكون ثمة منهج مدروس، وخطوات محكمة، وتوجيهات واضحة دقيقة، تمثّل الحدود والأبعاد لكل خطوة من الخطوات أو جانب من الجوانب.

   وأصل ذلك الإيمان الحيّ الراسخ، المؤسّس على العلم القطعيّ النافع، واليقين النابض المشرق.

ثم لابدّ للعلم النافع أن يقترن بالعمل الصالح ثمّ لابدّ لهما أن يثمرا الدعوة إلى الخير، ونصح الخلق، وبذل المعروف لعباد الله سبحانه، وبذلك يبلغ العبد قمّة الإرث النبويّ الكريم، وذلك على قدر التأسّي بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، واتّباع منهجه وهديه. 

وكما يختار الزارع ما يغرس، ويختار التربة التي يغرس فيها، والوقت المناسب للغرس، ثم يتعهد ما يغرس، فيسقيه ويشذّبه، ويحميه من الآفات ويحوطه، حتى يقوى ساقه، ويشتدّ عوده، ويضرب بجذوره في أغوار الأرض، وتمتدّ فروعه وأغصانه.. فكذلك التكوين التربوي، والبناء العلمي، والعلاقات الاجتماعية، هي المحاور الأساسية التي تبنى على أساسها الشخصيّة الإسلاميّة، التي يراد لها أن تحمل الإسلام علماً وعملاً، ودعوة وإصلاحاً، ولن يتحقّق لها ذلك إلا بالإخلاص في العلم، والحرص على العمل، وابتغاء الثمرة من العلم والعمل، ألا وهي الدعوة إلى الخير، ونفع الأمّة، ونصح الخلق.

ثم إن هذه المحاور الثلاثة تتشابك وتـتداخل لوثيق الصلة بينها، وتفاعل كل واحد منها مع الآخر وتكامله، لتحقق جميعها أهدافها المرجوّة منها، وتبلغ الغاية التي تسعى إليها.

وعندما يسير طالب العلم بغير منهج مدروس، أو خطوات محكمة أو بناء تربوي وثيق، وعلاقات مضبوطة، فإنه يتخبّط في حياته العلـمـية والعملية ويتعثّر، وربما زاغ عن سبيل العلم والهدى، وانقطع عن الغاية التي شمّر لها.. وتراه ينقض اليوم ما أبرمه بالأمس، ويعزم في حينه على ما عارضه بالأمس، واجتهد في توهينه وتراه يشتغل بما لا يعنيه، ويبذل وقته وجهده فيما لا يجديه، ويدع ما يتأكد عليه القيام به، وينتحل لذلك المعاذير، ويلقي بالتبعة على الآخرين.

   ـ من هنا كان لابدّ لطالب العلم أولاً: أن يسير على بصيرة من أمره، وأن يسترشد بتوجيه أهل العلم والدين، ممن سبقه في هذا السبيل، لينتفع بتجارب من سبقه، ويستفيد من خبرتهم واجتهادهم.

ـ ثم لابدّ له ثانياً: أن يكون سيره متّزناً، يجمع فيه بين العلم والعمل، وإعداد النفس للدعوة، وخوض ميدان الحياة العمليّة، إرشاداً للخلق، ونصحاً لعباد الله، وبذلاً للخير، وسعياً في البرّ.

ـ ثم لابدّ له ثالثاً: أن يأخذ نفسه بالعزائم، ويسلك سبيل الزهد والورع، ويربأ بنفسه عن أن تكون من العامّة وأشباه العامّة، فيضع لنفسه هدفاً كريماً يسعى إليه، وغاية رفيعة يسمو إليها، ويجتهد في تحقيقها، ليجدّ في سيره، ويعزم على أرشد أمره، ولا تشغله اهتمامات الحياة الصغيرة، وملهياتها الموقوتة التافهة، عن أهدافه وغايته، ولا تتشعّب به أودية الهموم عن همّه الأكبر، ومقصده الأسمى.

ـ فإن لم يجمع طالب العلم بين هذه الاتجاهات والمناهج في بناء شخصيّته، وإحكام سيره، فإنه لن تتحقّق الحكمة والغاية من طلبه للعلم، وتكون حياته العلميّة قاصرة النفع ضعيفة الأثر.

لابدّ له أولاً وأخيراً، أن يكون عظيم الثقة بالله، والاعتصام به، والتوكًل عليه، دائم الضراعة إليه سبحانه، أن يمدّه بمدده، ويمنحه عونه وتوفيقه، ويسدّد خطاه وطريقه، وألاّ يكله إلى نفسه، ولا إلى أحد من خلقه طرفة عين، ولا أقلّ من ذلك، إنه وليّ ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا وحسب كلّ مؤمن ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.

المنهج العلمي الأمثل

لا بدّ لطالب العلم من منهج علميّ يسير عليه وإلا فإنه يتخبّط في سيره، وينقض في يومه ما أبرم في أمسه، ولا يكاد يقطع شوطاً إلى نهايته، فتكون حياته العلميّة أشبه بالمنثورات والملح، التي تتناثر في ثنايا فكره وربما لم يحتفظ منها بما يعدّ من المنثورات النافعة، وتكون معلوماته العلميّة أشبه بالثقافة السطحيّة منها بالتخصّص العلميّ الراسخ.

ومثل هذا النوع من الناس لا يؤمن عليه الزيغ والانحراف عن هدي الله القويم، لأن الله سبحانه، قد عدّه قسيماً لعباده المهتدين، الآخذين للعلم على منهجه وأصوله، الذين سمّاهم " الراسخين في العلم "، فقال سبحانه: {فأمّا الذينَ في قُلوبهم زَيغٌ، فيَتّبعون ما تَشابهَ منهُ ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِه وما يَعلمُ تأويلَه إلا اللهُ، والرّاسِخون في العِلم يقولونَ: آمنّا بِه، كُلٌ من عندِ ربِّنا، ومَا يَذّكّر إلاّ أُولو الأَلباب (7)} آل عمران.

   واعلم أن المنهج العلميّ الأمثل لطالب العلم يقوم على الاهتمام بالعلوم التالية، والبدء بتلقّيها بتدرّج محكم مناسب:

1- الاهتمام بالقرآن الكريم، حفظاً وتجويداً، وفهماً وتفسيراً.

2- الاهتمام بالسنّة النبويّة، رواية ودراية، بحفظ بعض متونها، والعناية بفقهها وأصولها.

3- العلم بالعقيدة الإسلاميّة الصحيحة، على ضوء الكتاب والسنّة، وفهم السلف الصالح، بأدلّتها النقليّة والعقليّة، بعيداً عن الأساليب الكلاميّة، والمماحكات اللفظيّة، التي لا تستند إلى دليل، ولا يدعمها برهان، وربط هذا العلم بالدعوة والمدعوّين، أخذاً من أسلوب القرآن الكريم، ومنهج النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة إلى العقيدة وتلقينها، وتقرير أدلّتها وبراهينها.

4- الاعتناء باللغة العربيّة، نحوها وصرفها، وتاريخها وآدابها، والتعمّق في ذلك، حتى يصبح عند طالب العلم ملكة لغويّة، تقوّيه على سبر أغوار الكتاب العزيز وتذوّق إعجازه، وأسرار بيانه، وفهم الحديث الشريف، وفقه أحكامه.

5- التفقّه بمذهب إمام من أئمّة الفقه المعتبرين، الذين خُدمت مذاهبهم، ونقلت أقوالهم نقلاً مشهوراً، وحرّرت أدلّتهم، ونُقِّحت أصولهم وقواعدهم.

6- الاهتمام بعلم أصول الفقه، وقواعد الاجتهاد والاستنباط، وتطوّر الفقه الإسلاميّ ونموّه، وتاريخ التشريع، والقواعد الفقهيّة وما فيها من جوامع الفقه وأصول المسائل.

7- دراسة فقه آيات الأحكام دراسة مقارنة وما فيها من أقوال السلف والأئمّة، والتعرّف على دقّة مداركهم الفقهيّة فيها.

8- فقه التربية الإسلاميّة والتزكية، وهذا ما يقتضي دراسة سير وتراجم الأئمّة العلماء الربّانيين على مدار التاريخ الإسلاميّ، ومناهجهم وأساليبهم في التربية والتزكية، وما كان لهم من دور في إصلاح الأمّة، وهداية الخلق إلى صراط الله المستقيم.

9- فقه الدعوة، وذلك بدراسة السيرة النبويّة، والتعمّق في فهمها، وفقه مراحلها وأطوارها، وحركة الدعوة الإسلاميّة خلال التاريخ، وما مرّت به من مراحل وأطوار، ومدّ وانحسار، وعقبات ومنعطفات.

10- الوعي بالدعوات والحركات المضادّة لدعوة الإسلام وأمّته، في مسيرتها التاريخيّة وواقعها الحاضر، وفقه الواقع الدوليّ المعاصر، ووسائل الغزو الفكريّ وأساليبه، والمذاهب الفكريّة المعاصرة، وموقف الإسلام منها.

ولعلك تتساءل:

ما السبيل إلى تحقيق هذا المنهج.؟

إن السبيل إلى ذلك يتلخّص في اتّباع الخطوات التالية:

   أ ـ لابدّ لطالب العلم أن يتلقّى العلم عن العلماء، ويجالسهم ويصحبهم، ويتواضع لهم، ويتأدّب معهم، ويستشيرهم فيما يقرأ، وكيف يقرأ؟ ومتى يقرأ؟ وماذا يقتني من الكتب، ومتى يقتنيها؟ فربما يغنيه كتاب جامع في علم عن كتب سواه في هذا العلم، وما اشتهر من القول: " لا يغني كتاب عن كتاب "، فهي قاعدة أغلبيّة، لا تعمّ ولا تطَّرد.

وقد أُثر عن السلف قولهم: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم".

ب ـ مع استرشادك بأهل العلم وتلقّيك عنهم، فلابدّ لك من اتّخاذ أخ ناصح من أترابك في طلب العلم، تطمئنّ لدينه وتقواه، وحرصه على طلب العلم مثلك، وتعاونه معك في هذا السبيل، فتذاكران معاً، وتقرآن معاً بعض الكتب في بعض العلوم، ويشدّ بعضكم أزر بعض.

فإن ظفرت بمثل هذا الأخ، فاحرص على صحبته غاية الحرص، واعلم أنه معدن نفيس في هذا الوجود، قلّما ظفر به الظافرون، فأدّ إليه حقوق الأخوّة، وعامله بالمروءة والإيثار، وستر الزلاّت والغضّ عن الهفوات.

ج ـ لكل علم من العلوم أصول وفضول، ومهمّات لابدّ منها، وأغاليط أنت في غنىً عنها، فاحذر أن يشغلك فضول العلم عن أصوله، وأغاليطه عن مهمّاته، فإنك بذلك لن تجني إلا القيل والقال، والمراء والجدال، ويضيع منك وقت التحصيل بالجدل العقيم، ووقت المؤمن أثمن من هذا العبث الطائش.

د ـ وكل علم من العلوم يتدرّج الطالب فيه مدارج عدّة، يمكن أن نميّز فيها أربعة مستويات:

   = مستوى المبتدئين.      

   = مستوى المتوسّطين.

   = مستوى المتمكّنين.     

   = مستوى المتخصّصين المحقّقين.

وكل مستوى من هذه المستويات تمثّله كتب معروفة لدى المختصّين في ذلك العلم، فلا ينبغي لطالب العلم أن يشتغل بكتاب في علم من العلوم، يزيد عن المستوى الذي هو فيه، فإن ذلك مضيعة للوقت وللجهد، ولن يخرج من وراء ذلك بطائلة.

   هـ ـ ولكي تتمكّن في علم من العلوم، لابدّ لك من أن تتّبع أسلوب التلخيص، وكتابة المذكّرات العلميّة، والتقاط درر الفوائد، التي تجود بها أفواه المشايخ الذين تتلقّى عنهم، فهي تمثّل خلاصات نادرة قد لا تستطيع العثور عليها بنفسك خلال سنين من طلبك للعلم.

ولعلّ في هذه الخطوات والملاحظات مقنع وكفاية، والله يتولاّنا وإيّاك بالتوفيق والهداية.

يتبع: في الجزء الثاني من المقالة وتتحدث عن: المـنـهـج التـربـوي لطالب العلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين