نعم الله تعالى على العباد

 

 

هناك ناس لهم طباع غبية كنود، تسدي إليهم الجميل بعد الجميل؟ فكأنما ترقم على ماء لا يبقى في نفوسهم أثر منه، ولا اعتراف به.

 وكثير ممن نلقى على هذا الغرار الرديء، يجيء أحدهم بطلبه فتحس أنه محرج، وأنه محتبس في دائرة هذه الحاجة التي يفتقدها.

 فإذا قضيتها له ولى مدبراً ولم يعقب!

 فإذا احتاج مرة أخرى أتى واللهفة بادية في سؤاله وحالته حتى إذا تم له ما يريد انصرف على عجل أو بعد كلمات ميتة لا تترجم عن قلب حاضر، ولا فؤاد واع.

هؤلاء الناس يظنون أن الحياة مكلَّفة بتيسير مطالبهم، فحسبهم أن يمدوا أيديهم لتعود بما يبتغون، كما تمد الدواب أفواهها إلى الكلأ وورق الشجر لتطعم منه متى شاءت دون إحساس بفضل من غرس وصنيع من منح!.

كذلك هم حذوك النعل بالنعل يحتاجون فيجدون فيولون!!

فماذا منعتهم شيئاً مما يريدون ارتفعت صيحاتهم بالسخط والسباب والاستنكار.

 لماذا؟ إنه صراخ الحيوان المحروم.

 فهلا إذا تألمتم من الحرمان أبديتم الرضا والشكر لدى العطاء.

 كثير من الناس يعاملون الله تعالى بهذا الأسلوب السافل، يسألونه فيجيبهم فإذا رجع أحدهم بيده حافلة مر كأن لم يدع ربه إلى ضُر مسَّه، مر دون شكر ودون حياء.

 فإذا احتاج ـ وما أسرع الاحتياج ـ عاد بذات الشعور وذات الكنود، فلماذا يتألم إذا لدغته آلام الحرمان والطرد؟.

 إنَّ المنع أيسر ما يقابل به الشخص الجاحد فهو لا يذوق طعم العطاء، ولا يقدِّر صاحبه.

ونحن جماهير البشر نصبح ونمسي نخوض في نعم الله سبحانه خوضاً، فلماذا لا نوقظ أفكارنا الغافية إلى معرفة تلك المنن؟ ولماذا لا نوقظ ضمائرنا لشكر مرسلها؟.

 تلفتُ يوماً إلى ما مضى من حياتي فرأيت صيباً من الخيرات قد غفرني ظاهره وباطنه ومتونه وحواشيه، وأحسست أن ما يضايقني أحياناً كان علاجاً حكيماً لعلل نفسية لو بقيت معي لكبت بي ونالت مني!.

 وساءلت نفسي

 كيف شكرها على هذا الخير الغدق؟ فكان الجواب: لقد شكرت النعماء يوم قدمت، فلما استقرت بدأ الشعور الحار يبرد والاعتراف بالجميل يخف !

 كذلك يفعل الناس، وتلك عادتهم مع المنعم الأعلى سبحانه، فهل هذه سبيل الاستزادة من خيره وبره؟؟.

وتذكرت كلمة لابن عطاء الله رحمه الله تعالى (كيف يخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد؟).

 إنَّ استصحاب الشعور بالعطاء السابق هو أخصر الطرق لاستدرار العطاء اللاحق، ولابن الجوزي في هذا خاطر لطيف قال رضى الله عنه: (بلغني عن بعض الكرماء أن رجلاً سأله فقال: أنا الذي أحسنت إلي يوم كذا وكذا، فقال: مرحباً بمن يتوسل إلينا بنا، ثم قضى حاجته...!).

 فأخذت من ذلك إشارة فناجيت بها ربي تعالى فقلت: أنت الذي هديته من زمن الطفولة، وحفظته من الضلال! ، وعصمته من كثير من الذنوب، وألهمته طلب العلم لا بفهم لشرف العلم ، لموضع الصغر ، ولا بحب والده ، لموت الوالد، ورزقته فهماً لتفقهه وتصنيفه، وهيأت له أسباب جمعه، وقمت برزقه من غير تعب منه، ولا ذل للخلق بالسؤال، وحاميت عنه الأعداء، فلم يقصده جبار إلا انهزم، وجمعت له ما لم تجمع لأكثر الخلق من فنون العلم التي لا تكاد تجتمع في شخص، وأضفت إليها تعلق القلب بمعرفتك ومحبتك وحسن العبارة ولطفها في الدلالة عليك، ووضعت له في القلوب القبول، حتى إن الخلق يقبلون عليه ويقبلون ما يقوله، ولا يشكون فيه، ويشتاقون إلى كلامه، ولا يدركهم الملل منه، وصنته بالعزلة عن مخالطة من لا يصلح، وآنسته في خلوته بالعلم تارة وبمناجاتك أخرى.

 وإن ذهبتُ أعدُّ لم أقدر على إحصاء عُشير العشر [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا] {النحل:18}.

 فيا محسنا إليَّ قبل أن أطلب، لا تخيب أملي فيك وأنا أطلب.

 فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك.

 ويقول ابن الجوزي رضى الله عنه: (نازعتني نفسي إلى أمر مكروه في الشرع، وجعلت تنصب لي التأويلات وتدفع الكراهة، وكانت تأويلاتها فاسدة، والحجة ظاهرة على الكراهة.

 فلجأت إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي، وأقبلت على القراءة، وكان درسي قد بلغ سورة يوسف فافتتحتها، وذلك الخاطر قد شغل قلبي حتى لا أدري ما أقرأ، فلما بلغت إلى قوله تعالى: [ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ] {يوسف:23} ، انتبهت لها وكأني خوطبت بها، فأفقت من تلك السكرة، فقلت يا نفس أفهمت؟، هذا حر بيع ظلماً فراعى حق من أحسن إليه، وسمَّاه مالكاً، وإن لم يكن له عليه ملك، فقال: إنه ربي، ثم زاد في بيان موجب كفُّ كفِّه عما يؤذيه فقال: أحسن مثواي، فكيف بك وأنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن إليك من ساعة وجودك وهداك أقوم طريق، ونجاك من كل كيد...؟، وضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن؟، وسهل لك مدارك العلوم حتى نلت في قصير الزمان ما لم ينله غيرك في طويله، وجلَّى في عرضه لسانك عرائس العلوم في حلل الفصاحة بعد أن ستر عن الخلق مقابحك، فتلقوها منك بحسن الظن، وساق رزقك بلا كلفة تكلف، ولا كدر من رغداً غير نزر، والله ما أدري أي نعمة عليك أشرح لك، حسن الصورة وصحة الآلات؟ أم سلامة المزاج واعتدال التركيب؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسة؟ أم إلهام الرشاد منذ الصغر؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش والزلل؟ أم استحباب طريق النقل واتباع الأثر من غير جمود على تقليد لمعظم ولا انخراط في سلك مبتدع؟ [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا] {إبراهيم:34} 

كم كائد نصب لك المكايد فوقاك؟

 كم عدو حط منك بالذم فرقاك؟

 كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك؟

 كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك؟

 فأنتِ يا نفس تصبحين وتمسين سليمة البدن؟ محروسة الدين، في تزيد من العلم وبلوغ الأمل.

 فإن منعك مراد فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع فسلمي حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح.

 ولو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنح ذكره امتلأت الطروس ولم تنقطع الكتابة.

 وأنتِ تعلمين أن ما لم أذكره أكثر؟ وأن ما أومأت إلى ذكره لم يشرح… فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه بعد ذلك كله؟  [مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] {يوسف:23}.

المصدر : كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين