صفات المتكبرين

 

قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: [وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {لقمان:18}.

هذه الآية إحدى وصايا لقمان لابنه، وقد قصَّ القرآن علينا منها عشراً، قال تعالى: [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13) وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ(14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ(19)]. {لقمان}.

لقد تضمَّنت هذه الآيات أمراً ونهياً ووعظاً، وإننا إذا نظرنا نظرة دقيقة إلى جميع هذه الوصايا، وجدنا مردَّها إلى التزام فضيلة التواضع، واجتناب رذيلة الكبر، فالإشراك بالله أكبر أنواع الكبر، لأنَّه استعلاء بالفكر الإنساني على الوحي السماوي، وكفر بآلاء الله تعالى وجحود لنعمائه، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم، قال تعالى: [وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ] {الزُّمر:60}. وقال جلَّ شأنه: [الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ] {غافر:35}.

وقد سمَّى القرآن الكريم الشرك ظلماً عظيماً، لأنَّ المشرك عطَّل عقله وتفكيره، فلم يتأمَّل في ملكوت السماوات والأرض، ليهديه ذلك إلى الإيمان بالله تعالى وحدَه، فأوقع نفسه في العذاب المهين، وشرُّ الناس من ظلم نفسه.

ولقد ذكر القرآن الكريم أنَّ الكِبْر كان أهم العوامل في إعراض الكافرين عن الإيمان بالله تعالى، والتصديق برسله، وأنَّ التواضع من صفات المؤمنين المهتدين، وها هو ذا يقص علينا ما دار من حوار بين قوم صالح عليه السلام فيقول: [قَالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ] {الأعراف:75-76}. 

ويقصُّ علينا مثل هذا الحوار في قوم شعيب عليه السلام فيقول: [لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا] {الأعراف:88-89}.

ويبين لنا في صراحة أنَّ الكبر، كان الدافع الأول لفرعون على تكذيب موسى وأخيه هارون عليهما السلام، قال تعالى: [ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ(46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ(47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ المُهْلَكِينَ(48)] {المؤمنون}..

وهكذا كان قوم نوح عليه السلام، قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: [قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا(5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا(6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(7) ]. {نوح}..

وإذا كان لقمان قد أوصى ابنه بإقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما ذلك إلا لأنَّ التزام هذه الصفات من الإنسان في خاصَّة نفسه ومع غيره، أظهر سمات المتواضعين.

وهل أبى إبليس السجود، حين أمره ربه بالسجود لآدم، إلا استكباراً وعلواً، حيث قال الله تعالى: [قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ] {ص:75}، فقال إبليس: [قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ] {ص:76}.

ولا شكَّ أنَّ المتكبر لا يحترم إمراً بمعروف، ولا نهياً عن منكر، ولا يلتزم ذلك، لأنَّه يرى نفسه فوق الحق وفوق الناس، ففي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر! فقال رجل يا رسول الله: إنَّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً وفعله حسناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس) وبطر الحق: رفض قبوله، وغمط الناس: احتقارهم والاستهانة بشأنهم.

وأما الصبر، فهو صفة من صفات المتواضعين؛ لأنَّه خضوع لقضاء الله تعالى ورضاء بقدره، وهل يتسخَّط المتسخطون، وييأس اليائسون، ويقنط القانطون، إلا لعدم رضائهم، بما قضاه الله تعالى في هذا الكون من أحداث وما يجريه فيهم من امتحان واختبار وابتلاء.

وأما تصعير الخد فهو إمالته عند التحدث إلى الناس، وهو شأن المتجبرين المتكبرين، الذين ملأهم الغرور، واستولى عليهم الصَّلَف والكِبْر، فهم يَمْشُون على الأرض مختالين، وإذا تحدَّثوا إلى الناس، تحدَّثوا فخورين مُعجبين بأنفسهم.

لذلك وصَّى لقمانُ ابنه، بتجنُّب ذلك وأرشده إلى ما يَنبغي عند المسير في الأرض، وعند التحدث مع الناس فقال: [وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ] {لقمان:19}. والقصد في المشي: التوسط فيه فلا يكون إسراعاً ولا إبطاءً، ولا عجباً ولا خيلاء، وكذلك التحدث مع الناس، فلا يكون صخباً يصم الآذان، ولا إخفاتاً يعزُّ على الأسماع، ويعزب عن الأذهان، ولقد ضرب لقمان المثل لابنه حين نصحه بالغضِّ من صوته، بأنَّ صوت الحمير أنكر الأصوات مع علوه وصخبه.

وفي القرآن الكريم والسنة النبويَّة، تصوير لآثار الكبر في المجتمع، فهو من أسباب الطغيان والعدوان، والفرح الآثم، والبغي الغاشم، وهل بغى قارون على قومه إلا لاستكباره واستعلائه! 

قال تعالى: [إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الفَرِحِينَ] {القصص:76}. 

ولقد قفَّى الله تعالى على قِصَّته بقوله: [تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] {القصص:83}. 

ويصوِّر لنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الجليل بقوله: (إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحد على أحد).

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في التواضع، فعن أنس رضي الله عنه أنَّه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) وكان صلى الله عليه وسلم يَعُود المساكين ويجالس الفقراء، ويقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنَّما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله).

وما أجدرنا أن نتجنَّب رذيلة الكبر، ونلتزم فضيلة التواضع حتى تظلل راية المحبة والألفة المجتمع الإنساني بظلها الوارف.

نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الثامنة، محرم 1370 - المجلد 1).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين