التجديد في الدعوة الإسلامية يبتدئ من المفاهيم -2-

 

3- التوكل:

وعلى نحو ما وجدنا في مفهوم الإحسان ومفهوم الصبر نجد أيضاً في مفاهيم أخرى كانت لها مدلولات محددة في أول أمرها ثم تغيرت هذه المدلولات تبعاً لعوامل التغير التي غيَّرت المجتمع وغيَّرت هدفه وطابعه.

والتوكل من النماذج الواضحة لهذا القانون، فإذا استعرضنا آيات القرآن التي تطلب من الإنسان أن يتوكل على الله تعالى نجدها لا تحيد إطلاقاً عن ذلك المعنى: وهو اقتران السعي البشري واستخدام الإمكانيات التي يملكها الإنسان بطلب المعونة من الله جلَّ شأنه.

وليس هناك في القرآن معنى للتوكل فصل فيه بين السعي البشري وبين طلب العون الإلهي، فإذا قرأنا مثلاً قول الله تعالى: [وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ] {إبراهيم:12}. وقوله تعالى لرسول الكريم: [وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا] {الأحزاب:48}. 

إذا قرآنا مثل هذه الآيات نجد القرآن الكريم ربط في معنى التوكل بين حقيقتين، بين المجهود البشري وطلب العون الإلهي، ففي الآية الأولى ربط بين المجهود البشري في الصبر على الإيذاء وطلب المعونة من الله تعالى في الاستمرار حتى تتحقق النتيجة المرجوة لنصر المثُل والقيم التي تخطط سبيل الله تعالى في الحياة، وفي الآية الثانية ربط بين المجهود البشري في عدم الإذعان للكافرين والمنافقين وفي تحمل أذاهم والانصراف عن الاهتمام به بطلب العون الإلهي حتى يتحقق أيضاً نصر المؤمنين.

وهكذا لو انتقلنا إلى آية ثالثة في قوله تعالى: [الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] {النحل:42}. أو في قوله سبحانه: [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] {آل عمران:159}. 

نجد ذلك الازدواج الذي لا يكون التوكل فضيلة ومطلوباً في نظر الإسلام إلا إذا تحقق واقترن أحد طرفيه بالآخر.

فإذا انفصل هذا الاقتران في وقت آخر بعد ذلك وأصبح التوكل عبارة عن انتظار عون الله سبحانه دون تقديم مجهود بشري ودون استخدام الطاقات التي يملكها الإنسان فإن هذا المعنى يكون طارئاً على مفهوم التوكل في بدء أمره، ويكون تخصيصاً له لعامل أو لعوامل طرأت على المجتمع الإسلامي فغيَّرته وتغير تبعاً لذلك هذا المفهوم.

وإذا فتَّشنا عن ذلك العامل أو تلك العوامل التي طرأت على المجتمع الإسلامي فغيَّرته وغيَّرت معه مفهوم التوكل بحيث أصبح مُوازياً لمعنى التواكل: وجدنا نفس الشيء الذي وجدناه سابقاً، وهو ما صار إليه المجتمع الإسلامي من ضعف وتفكك في الروابط وانصراف عن المثل والسعي إليها إلى الارتباط بتحصيل المطالب اليوميَّة التي من شأنها أن تعين الإنسان على البقاء المادي ككائن تدفعه غريزة حب البقاء إلى الحرص عليه.. 

ولو استرسلنا في تحليل العناصر الخاصة لظواهر الضعف والتفكك والانصراف عن المثل العليا ربما وجدنا هذه العناصر في شيوع الفرديَّة والأنانيَّة، التي تسيطر على أفراد المجتمع بعد توالي الأزمات عليه وبعد فقدانهم الثقة في أنفسهم وفي علاقات بعضهم مع بعض.

والمجتمع الإسلامي – كأي مجتمع إنساني – مرَّت به أزمات كثيرة وفقد أفراده الثقة بأنفسهم وأصبحوا ينظر بعضهم إلى بعض نظرة ريبة وشك، وبالتالي ركَّزوا سعيهم في الحياة على الاستقرار الذاتي أو بعبارة أخرى على المحافظة على البقاء الفردي والشخصي.

ومفهوم التوكل هذا في تطوره وفي تحوله ينبئ بدوره عن تحول المجتمع نفسه من قوة إلى ضعف، كما كان تحوله هو ذاته نتيجة لتحوُّل المجتمع.

4 – التواضع:

ولا يشذ مفهوم التواضع عن تلك المفاهيم السابقة في تحول مدلولها وفي تأثر هذا التحوُّل بطابع المجتمع نفسه، فقد كان مدلوله الأول – ولذا كان فضيلة – حمل النفس على عدم الغرور بأسباب القوَّة وبمصدر العِزَّة الذي يتوفر للإنسان في وقت من الأوقات، ولم يكن يتصل بهذا المدلول من قريب أو بعيد معنى الذلة أو معنى القبول للمهانة في أي صورة من صورها، والقرآن الكريم في آياته يوضح هذا المدلول على نحو جلي لا لبس فيه، فيقول تعالى: [فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ] {المائدة:54}. ويقول: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ] {الإسراء:24}. 

ويقول سبحانه مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: [وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] {الشعراء:215}. ويقول جلَّ وعلا: [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] {آل عمران:159}.

كل هذه الآيات تطلب في واقع الأمر ألا يدفع الإنسان المؤمنين – بسبب ما له من تفوق أي تفوق – إلى أن يكون سلوكه بالنسبة لقرنائه أو بالنسبة لمن لهم فضل عليه كالآباء والأمهات سلوك المترفع المتكبر.

وإنما يجب أن يكون مهذباً في تصرفه معهم. وهذا التهذيب هو ما يشير إليه التعبير بقوله: (أذلة) وبقوله: (واخفض جناحك) وبقوله أيضاً: (واخفض لهما جناح الذل).

فإذا مال التواضع إلى معنى آخر وهو – مثلاً – الرضا بالمهانة أو البقاء في الذل، مع العجز عن دفع أسباب المهانة أو الخروج عن نطاق الذلِّ – فإنَّ ذلك معنى طارئ على المدلول الأول، حمل عليه وضع المجتمع الإسلامي نفسه الذي صار إليه، وهو وضع الضعيف أو المستضعف، أو وضع الذليل أو المستذل، لأسباب لا تتصل بالإسلام وإنما تتصل بالمسلمين أنفسهم في علاقات بعضهم ببعض أو في صلات أمتهم بالأمم الأخرى.

5 – العفو:

وعلى هذا النحو (العفو) في مدلوله وفي تطور هذا المدلول من معنى كان له أولاً إلى معنى آخر لحقه ثانياً: فإذا قرأنا مثلاً قول الله تعالى في وصف المؤمنين: [وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {آل عمران:134}. يتأكد لدينا أنَّ مدلول العفو الذي اعتبر فضيلة من الفضائل التي يجب أن يتصف بها المؤمنين: هو ترك توقيع الجزاء مع القدرة على مباشرته والصفح عن الأخذ بالمثل مع الاستطاعة عليه، وتأكيد ذلك يوضحه التعقيب في هذه الآية في قوله: [وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] فليس الإحسان هنا إلا الصورة المثلى من صورة الإنسانيَّة الكريمة، وهي التي تمثَّلت في ضبط النفس والعفو عند المقدرة.

ويزيد في هذا المعنى وضوحاً قول الله سبحانه وتعالى في آية آخرة: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ] {الشُّورى:40} فهذه الآية ربطت الأمر بمثله في الجزاء وأباحت القصاص بما لا يجاوز المثل ولكن طلبت من المؤمن أن يكون ذا مستوى إنساني أرفع فيترك جزاء السيئة بمثلها لأنه أليق بالإنسان المحسن المهذب، وإذا ذكرت هذه الآية في عقبها قوله تعالى: [فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ]، كجزاء للشرط في قوله سبحانه: [فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ] فإن ذلك فقط لدفع المؤمن دفعاً نفسياً على أن يتخلَّق بخلق العفو وهو الصورة الإنسانيَّة الكريمة التي شرحناها، حتى يصير العفو بعد ذلك خلقاً له يصدر عنه دون أن ينتظر أجراً من الله عليه.

هذا العفو إذا صار إلى معنى التسامح عند العجز عن رد المثل وعدم القدرة على جزاء السيئة بمثلها فإنَّه يكون معنى آخر طارئاً على فضيلة العفو التي جعلها الإسلام من فضائل التهذيب والسلوك الإنساني الكريم، ويكون السبب الذي دعا إلى طرو هذا المعنى هو ذلك السبب الذي يتصل بالطابع العام الذي صار إليه المجتمع الإسلامي، وهو طابع الضعف والاستكانة، وطابع العجز الذي أوصل إليه تفكك الروابط بين الأفراد ونزول الهدف من الاحتفاظ بالمثل العليا، أو السعي نحو تحقيقها إلى الحرص على الحياة الفرديَّة والبعد عن الأزمات أو عن مجال الكفاح في الحياة.

***

وهكذا لو تتبَّعنا المفاهيم التي تمثل الفضائل الإسلامية والتي يقوم عليها المنهج المستقيم للسلوك العملي للإنسان المؤمن، لوجدناها تغيَّرت وآلت تقريباً إلى أضداد مدلولاتها الأولى، ووجدنا كذلك أنَّ السبب في تغييرها هو المجتمع نفسه، ثم لو فتشنا في طابع المجتمع الذي أوحى بهذا التغير في المفاهيم من مدلولاتها الأولى إلى أضدادها لوجدنا أنَّ الفرد في المجتمع الإسلامي قد تغيَّر عما كان عليه أول هذا المجتمع، ولا يخرج هذا التغير عن كون أنَّ الإيمان الذي كان للمسلم الأول في نوعه وفي امتلاء القلب به خفَّ وزنه أو تحوَّل أمره من المقدَّسات والمثل العليا إلى مَطالب دنيويَّة أو أهداف قريبة في الحياة الإنسانيَّة.

ولذلك لا يمكن أن تردَّ هذه المفاهيم إلى مدلولاتها الأولى إلا إذا ربي الفرد المسلم تربية إسلامية، وأنشئ على الإحساس بالقيم التي جاءت بها الرسالة الإسلامية، ثم تمثَّلت في نفسه، وفي إيمانه، وفي سلوكه معاً، ثم من جهة أخرى لا يمكن أن يربى الفرد المسلم هذه التربية الإسلامية وينشأ على عشق القيم العليا وتمثلها في إيمانه وفي سلوكه إلا إذا حملت هذه المفاهيم من جديد مدلولاتها الأولى، ووضعت أمامه في الحياة الإسلامية كي يعيها ويتدبرها ثم يؤمن بها ويتصرف على غرارها.

وهنا طريق الإصلاح طريق مزدوج، ولكنه طريق يمكن أن يبتدأ فيه في وقت واحد، في الوقت الذي تعاد المدلولات الأولى للمفاهيم الإسلاميَّة وتقدَّم للأفراد في المجتمع وهي حاملة لهذه المدلولات، والسبيل إلى ذلك هو العودة إلى القرآن والتزام مدلولات آياته دون أن يحكم في تفسيره قاموس تكون بعد نزوله وحدَّدت مصطلحاته تحت تأثير عصبيَّة مذهبية أو طائفية، ودون أن يحكم فيه لون مُعيَّن من التفسير خضع لعوامل الضعف أو توجيه الذين حاولوا أن يستذلوا الأمة الإسلامية في مقوماتها، وفي قيمها التي تميَّزت بها كأمة لها تاريخ ولها رسالة وفرض عليها كفاح من أجل هذه الرسالة.

وهذا كله يدعو من جديد إلى إعادة النظر في الكتب والرسائل التي تعرض الإسلام وتقدم للمسلمين في مدارسهم ومعاهدهم أو في حياتهم العامة، كما يدعو إلى إعادة النظر في ثقافة المساجد التي تقدم للمترددين عليها، بحيث تكون هذه الثقافة تعبيراً عن الأصالة في رسالة الإسلام كنظام صالح للحياة الإنسانية الكريمة، ومن عناصر الحياة الإنسانية الكريمة أن يكون الإنسان قوياً في كل ما يتصل بالجوانب الإنسانية، ولكنه في الوقت نفسه مهذب في كل ما يتصل بالسلوك والمعاملة مع غيره.

ونقطة البداية إذاً هي: ردُّ المفاهيم الإسلامية إلى مدلولاتها الأولى، واستشارة القرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح في تحديد هذه المدلولات دون غيرهما مما نسب للمسلمين وتأثر بالأوضاع الإنسانيَّة المختلفة التي تبعد كثيراً أو قليلاً عن أهداف الرسالة الإسلامية.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، ذو القعدة 1381 - العدد 214).

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين