الفاتح الذي اشتقنا لعودة أيامه (13)

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ، ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. .. وبعد

فقد انتهى بنا الحديث في الحلقة السابقة عند استجابة ملوك وأمراء أوربا لنداء البابا للخروج مجتمعين لمحاربة الدولة العثمانية بعد تلكؤ ، وعقدهم مؤتمرا في السادس والعشرين من شهر أغسطس ، واتفاقهم على القيام بحرب مقدسة ضد المسلمين ، وتقسيم الأملاك التي خضعت للدولة العثمانية بين الدول المنتصرة.

 وطلب البابا  من جميع المسيحيين من غير رجال الدين أن يتبرعوا بجزء من ثلاثين من دخلهم، وإلى جميع اليهود بجزء من عشرين منه، ومن جميع رجال الدين بجزء من عشرة من هذا الإيراد.

ولكن النصر لا يتحقق بالاجتماعات والمؤتمرات ، وإنما بقوة الساعد والسلاح ، خاصة إذا كان الخصم ليس قصعة يتداعى عليها الجياع ، وإنما هو أسد يفترس كل من يفكر في الاقتراب من حماه .

يقول ول ديو رانت واصفا حال البابا بعد خذلان ملوك أوربا له : "وفي هذا الأثناء كانت الجيوش التي يظن أنها ستقابله قد ذابت كأنما كان ذلك بسحر ساحر شرقي ،  فأما الجيوش التي وعدت بها ميلان في أول الأمر فلم تأت، وأما التي بعثت بها فلورنس فقد كانت مجهزة تجهيزاً بلغ من الضعف حداً جعلها عديمة النفع؛ ولمّا وصل بيوس إلى أنكونا وجد أن معظم الصليبيين الذين تجمعوا فيها قد غادروها لأنهم سئموا الانتظار "..

ولم ينهض من هؤلاء غير البنادقة معتمدين على قواهم البحرية ، التي كانت تقدر بـ3 آلاف سفينة تجارية و300 سفينة حربية ، وكان يعمل في دور صناعتها 17 ألف عامل ، وفي بحارتها 25 ألف بحار ، وتناسوا الامتيازات التجارية التي منحتها الدولة العثمانية لهم ، وكانت النتيجة هزيمتها أمام الجيش العثماني هزيمة منكرة في عام 1470م واستيلاء جيش الفاتح على جزيرة " أجريبوس " مركز مستعمرات البندقية .

فحاول البنادقة الاستعانة بالبابا الذي أوقعهم في الوحل وبأمير " نابولي " ولكن دون جدوى ، وتوالت عليهم الهزائم أمام المسلمين ، كان آخرها سنة 1477م ، حيث أغار السلطان على بلادهم ، ووصل إلى إقليم الفريول بعد أن مر بإقليمي كرواسيا ودلماسيا ، وهما تابعان الآن لمملكة النمسا والمجر ، فخاف البنادقة على مدينتهم الأصلية ، وأبرموا الصلح معه تاركين له مدينة كرويا التي كانت عاصمة إسكندر بك من قبل فاحتلها السلطان ، ثم طلب منهم مدينة اشقودره (في ألبانيا حاليا) ولما رفضوا التنازل عنها إليه حاصرها ، وأطلق عليها مدافعه ستة أسابيع متوالية .. ولما أبى أهلها الاستسلام تركها ، وفتح ما كان حولها للبنادقة من البلاد والقلاع حتى صارت ( أي  مدينة اشقودره ) منفصلة بالكلية عن باقي بلاد البنادقة فتنازلوا له عنها مكرهين ..

واضطرت البندقية مرة أخرى لإبرام الصلح مع السلطان الفاتح مقابل تنازلها عن كثير من الأماكن الهامة التابعة له ، منها مدينة " نجربون " ومدينة  " أشقودرة " و جزيرة " أجريبوس " التي كانت قد سقطت في أيديهم من قبل ، كما تعهدت بدفع 10 آلاف دوقة ذهبية مقابل السماح لها بممارسة التجارة داخل أراضي الدولة العثمانية ، واكتفى ملوك أوربا بتوجيه اللوم إليها ، وأنكروا أن تبرم وتحافظ على الصلح مع الكافر ( يقصدون السلطان محمد الذي كفر بالطاغوت وآمن بالله ).

ومن العجب أن البابا لما يأس من القضاء على الإسلام في أوربا بقوة السيف راسل السلطان يغريه ويعرض عليه اتباع نصرانيته في مقابل أن يتوجه على باقي بلاد أوربا ، وقال له : "إذا اعتنقت المسيحية لم يبق أمير على وجه الأرض يفوقك في المجد أو يضارعك في السلطان ، ولئن فعلت لنعترفن بك إمبراطوراً على اليونان( بلاد الغرب ) وعلى بلاد الشرق، وتصبح البلاد التي استوليت عليها بالقوة، والتي تحتفظ بها ظلماً وعدواناً، ملكاً لك مشروعاً... وما أعظم السلم التي يؤدي إليها هذا العمل وأكملها، إذن لعاد إلى الوجود عصر أغسطس الذهبي الذي يتغنى به الشعراء، فإذا انضممت إلينا فلن يلبث الشرق كله أن يعتنق الدين المسيحي ، إن إرادة واحدة تستطيع أن تبسط لواء السلم على العالم كله، وهذه هي إرادتك!"..

ولم يشأ السلطان محمد أن يضيع وقته في الرد على تلك الرسالة الصبيانية ، فهو إن قُدر له أن يهيمن على أوربا بأكملها وسائر بلدان الشرق والغرب فلن يحتاج ذلك لمباركة البابا ، وإنما يحتاج فقط لتوفيق الله سبحانه وتعالى ، ثم سواعد جنوده الأسود الذين يجاهدون لنشر نور الإسلام في الأرض .

وكانت النتيجة أن هلك هذا البابا حزنا على ما تحقق للإسلام من نصر في أوربا على يد العثمانيين ، إذ اشتدت عليه علة المرض حتى توفي في 14 أغسطس سنة 1464م ..

وبعد القضاء على قوة البنادقة أرسل السلطان  جزءا من جيوشه لفتح مدينة أثينا التي كانت تسمى بمدينة الحكماء ، وكان سبب فتحها أن الأمير الإيطالي  "فرانسو آجياأولي"  أساء معاملة أهلها فاستنجدوا بالسلطان محمد لتخليصهم منه ، بعد أن سيرهم بمنزلة الأسرى لدى الكاثوليك الفرنسيين والأسر الإيطالية والقاتالانية التي هاجرت إلى مدينتهم ، فلبى السلطان طلبهم ، وضمها لحوزة الدولة العثمانية .

وذُكر أيضا في سبب لجوئهم إلى السلطان  الفاتح أن أميرهم المسمى  "رينر"  مات وترك وريثاً صغيراً له مع أرملته ، فوقعت تلك  الأميرة في غرام شاب، من أسرة بندقية عريقة ، كان والياً على مستعمرة "المورة" الشرقية لـ"البندقية" "نابولي دو رومانيا" التي كان الأتراك يسمونها بـ"الأناضول"

وقد عرضت عليه إمارة أثينا مقابل الزواج بها ، شريطة أن يقتل زوجته البندقية ليبقى حراً ، فوافقها على ذلك ، واستبد بأهل المدينة ، وأساء فيهم السيرة ، فاشتكوا إلى السلطان محمد الذي قام بدوره بإرسال حامية تمكنت من تنصيب ابن الأمير السابق على المدينة "فرانسو آجياأولي ، إلا أن فرانسوا هذا لما تمكن من حكم "أثينا" بدعم من السلطان "محمد الفاتح" كان أول عمل قام به هو قتل الأميرة المذكورة ..

 فقام زوجها الثاني الذي كان قد فر من المدينة عند تنصيب "فرانسو آجياأولي" برفع شكوى إلى السلطان الفاتح ، وعندها لم يجد السلطان بدا من خلع الأمير الذي ساعده في الوصول للإمارة  ، فكلف  أمير "المورة" "عمر بك بن طورخان" بالاستيلاء على هذه المدينة التاريخية ،  فخرج إليها عمر بك ، وبعد أن دخلها سمح لـ"فرانسو آجياأولي" بالخروج من المدينة، مع خزائنه وأمواله.

 وفتحت مدينة "أثينا" من دون إسالة للدماء.، واستراح أهلها من القلاقل والاضطرابات التي أثارها الأمراء الإيطاليون .

   نعم لم يتسبب العثمانيون في إراقة قطرة دم من سكان أثينا عند فتحها في حين أن المجريين لما انتصروا على المسلمين   عند مدينة كرلسبرج في 13 أكتوبر سنة 1476 قتلوا جميع الأسرى المسلمين ، ونصبوا موائدهم على جثثهم ..

وبعد الفراغ من فتح " أثينا " ذهب السلطان لزيارتها ، وأقام بين أهلها أسابيع ينظر في مصالحهم وحوائجهم ومشكلاتهم ، وأغدق على أهلها كثيرا من العطايا ، وقد زار خلال إقامته كثيرا من آثارها القديمة ، وخاصة معبد أكربول أوبارثيون ، وشاهد روائع الفن اليوناني بها ، فكان لتلك الزيارة أبلغ الأثر في قلوب سكانها ، خاصة وأن آثار ما فعله البنداقة بمدينتهم من نهب وتدمير وسرقة كان ما يزال ماثلا أمام أعينهم ، فأحسوا بعظم الفارق بين أخلاق وسماحة المسلمين وهمجية البنادقة ، وهذا ساعدهم على الإقبال على الإسلام والاندماج في الدولة العثمانية .

لقد سعد أهالي أثينا بالفتح العثماني ، وأكد ذلك فِنلي مؤلف كتاب " تاريخ اليونان " بقوله : " كان اليونانيون قد ضاقوا ذرعا بالحكام المستبدين في أثينا ومتعصبي الكنيسة البابوية ، فاستقبلوا الحكم العثماني بفرح وابتهاج " وأكد على ذلك أيضا اللورد " أكتن" بقوله : إن تسامح العثمانيين في الأمور الدينية جعل أهالي البلقان واليونان من أتباع الكنيسة الشرقية يقبلون الفاتحين الأتراك عن طيب خاطر " .

ولم لا وكان يردد أمام شعوب العالم المسيحي التي دانت له قوله : " إني أقسم بالمساجد التي شيدتها أنكم سترون كنائس تشيد لكم ليجتمع شعبكم للصلاة والتضرع لله كما يفعل المسلمون "   

وبقيت أثينا تنعم بالحكم الإسلامي حتى انسلخت اليونان تماما من الخلافة العثمانية في عام 1245هـ/1829م. بعد أن تآمر عليها الأعداء .

وبعد ذلك وجه الفاتح اهتمامه ناحية الأناضول ؛ وقد حرص خلال سيره إليها أن يحيط أعماله بالسرية الكاملة ؛ لدرجة أن قاضي عسكر لما سأله عن الجهة التي يقصدها قال له : انظر، يا شيخ، إذا كانت إحدى الشعرات من لحيتي تعلم ما أفكر فيه، فإني أقوم بنتف تلك الشعرة على الفور.

وقد سار على رأس جيشه برا ً، وأمر وزيره الأعظم " محمود باشا " أن يخرج على رأس الأسطول البحري ، وقدم إليه ظرفاً مغلقاً، كان هذا الظرف يحوي تعليمات التحرك البحري ، ولكن السلطان اشترط عليه ألا يفتح الظرف إلا  بعد أن يجتاز البوسفور إلى البحر الأسود ؛ إمعانا في سرية التحرك .

وبدأ السلطان بمدينة  "آماسرا" فحاصرها من البر؛ وحصارها الوزير الأعظم من جهة  البحر، ولم تجد الجالية الجنوية أمام هذا الحصار البري والبحري إلا الاستسلام ، وتم فتح المدينة في خلال أيام .

ثم سار السلطان بجيوشه إلى  "سينوب" فضرب عليها الحصار برا وبحرا كما فعل في  "آماسرا" وكان يملكها  "إسماعيل بن إبراهيم بك الثاني" من بني "إسفنديار"  واشتهر بعلمه وفضائله الأخلاقية ، ولذلك آثر الاستسلام حقنا للدماء رغم أنه كان في إمكانه الدفاع عن مدينته ، والاعتماد على متانة القلعة واستحكاماتها، وقوة أسطوله.

وخرج بعد ذلك مع الوزير الأعظم إلى مقر السلطان لمقابلته  ، فأمر بأن يستقبله كل الوزراء والأمراء بتقدير جم واحترام لائق به، وقام إليه السلطان نفسه ، وتقدم عدة خطوات إلى الأمام لاستقباله ، ولما رغب "إسماعيل بك" في تقبيل يده سحبها السلطان قائلاً له: إسماعيل بك أنت أخي الكبير، وهل يجوز لك تقبيل يدي! وأمسك بيده وأجلسه بجانب تخته ، ثم منحه واردات مدن "يني شهر" و"إينه كول" و"يار حصار"، وعين ابنه "حسن آغا" على سنجق "بولو" ..

ثم سار لفتح مملكة " طرابزون " وكانت تلك المملكة قد سالمت الدولة العثمانية ، ودفعت له ضريبة الجزية ، ولكن أوزون حسن ( حفيد تيمور لنك ) أغرى ملاكها بنقض عهده ، وكتب أوزون حسن هذا إلى السلطان محمد  ابن أخيه "مراد بك" طالباً منه إلغاء الخراج الذي كانت إمبراطورية "طرابزون" تدفعه إلى الخزينة العثمانية ، ولما لم يحصل "أوزون حسن" على الاستجابة لطلبه قام بالاستيلاء على الحدود العثمانية في عام 865هـ/1461م، حيث استولى على قلعة "قيونلي حصار" أو "قيون حصار"  وأعلن للدولة العثمانية العداوة بشكل علني، فسار السلطان الفاتح إليه وأنزل به عدة هزائم ، فجاءت والدته  "ساري خاتون" أو "ستارة خاتون" إليه ، وعرضت عليه أن تتوسط في الصلح بينه وبين ابنها ، وقدمت إليه بعض الهدايا.

فلما رآها السلطان قام إليها محتفيا ومرحبا وأحسن إكرامها لكبر سنها ، وسماها بالوالدة  ، ولبى طلبها ، ولكنه أبقاها عنده ليضمن عدم خروج ابنها عليه وهو يحاصر طرابزون التي نقض ملكها عهده بناء على إغراء أوزون .

ثم زحف السلطان إلى طرابزون بجيشه بين جبال "كموشخانة" الوعرة المغطاة بالثلوج، بعد أن أمر العمال بتسوية الأرض، وقطع الأشجار أمام جيشه ، واضطر في بعض الأوقات لأن يترجل عن فرسه ، ويتسلق الجبال على يديه ورجليه كسائر الجند ، فقالت له " ساري خاتون " وقد دهشت من فعله : فيمَ تشقى كل هذا الشقاء يا بني ، وتتكبد كل هذا العناء ، هل تستحق طرابزون كل هذا؟  ..

فقال لها: يا أماه ، إن الله قد وضع هذا السيف في يدي لأجاهد به في سبيله، فإذا أنا لم أتحمل هذه المتاعب ، وأؤد بهذا السيف حقه فلن أكون جديراً بلقب الغازي الذي أحمله ، وكيف ألقى الله بعد ذلك يوم القيامة؟  .

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله إن كان في العمر بقية وفي الصحة متسع .

المصدر: موقع التاريخ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين