كل ما بني على الباطل باطل – 3 -

 

- أقوال العلماء في الحديث موضوع المقال تكشف قصر نظر الكاتب، ورخص بضاعته من العلم، ولعل ما قالوه يرشد الباحث إلى الصواب، وليتبين له أنه لم يكن مصيبا، بل كان مصيبة على مجال العلم والبحث، لمّا رفض قبول أقوال العلماء الذين تناولوا الحديث، وهم جبال في العلم، وليس فيهم من خطر بباله مجرد خاطر أن الحديث موضوع، وأنه وضع لخدمة الحكام !

هذه نبذة عما قاله العلماء في الحديث موضوع المقال يتبين منها أن البخاري كان واحدا من عدد كبير من العلماء تناول الحديث، وبينوا دلالته، ولعل الباحث قد تفرد عن هؤلاء المتخصصين بفهم لم يسبق إليه أي من سكان الأرض سواه، فيا له من عصر عاصر :

- أبدأ من صحيح البخاري - ما جاء في الجنائز

1237 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ، عَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، فَأَخْبَرَنِي - أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي - أَنَّهُ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ " قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ:" وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ "

- " آت من ربي " هو جبريل- عليه السلام- آتٍ اسم فاعل من أتى

- الحديث رواه الكثيرون من العلماء، وهو في كثير من المراجع التي اعتنت بالأحاديث الشريفة

3222 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ لِي جِبْرِيلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، أَوْ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ" قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: " وَإِنْ " (من البخاري أيضا).

5827 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنِ الحُسَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: " مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ " قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ" وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا عِنْدَ المَوْتِ، أَوْ قَبْلَهُ إِذَا تَابَ وَنَدِمَ، وَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، غُفِرَ لَهُ

- " في الحديث أنَّ المؤمنين إذا جازوا الصِّراطَ، حُبِسُوا على قنطرة يقتصُّ منهم مظالمُ كانت بينهم في الدنيا" أخرجه: البخاري 3/167 (2440) و8/138 (6535) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً. 

- ربما ضاق صدر الباحث من سوق هذه النصوص كما وردت، لأنه ليس ممن طلب العلم بمثل هذه الطريقة، بل قد دعا إلى نبذ الطرائق التعلمية السالفة، ودعا إلى أخذ العلم هبشا كيفما اتفق، وما دام الهدم هو المقصد، فلم لا يبدأ طريقه في التحصيل كيفما اتفق  !

- قال بعض السَّلف: " إنَّ الرجل ليُحبَسُ على باب الجنَّةِ مئة عام بالذنب كان يعملُه في الدنيا " أخرجه: ابن أبي شيبة (35416) من قول أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي.

- ومن هنا يظهرُ معنى الأحاديث التي جاءت في ترتيب دخول الجنَّة على مجرَّد التوحيد

- عن أبي هُريرة: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له يوماً: " مَنْ لَقِيتَ يشهد أنْ لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبُه، فبشِّره بالجنَّة " في الصحيح 1/43 (31) (52)

- وفي " الصحيحين " عن أنس: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً لمعاذ: ما مِنْ عبدٍ يشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله إلاَّ حرَّمه الله على النار. 

- صحيح البخاري 1/44 (128)، وصحيح مسلم 1/44 (32) (53) .

- وفيهما عن عِتبان بن مالك، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّ الله قد حرَّم على النَّارِ مَنْ قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه اللهِ .

- صحيح البخاري 1/115-116 (425)، وصحيح مسلم 1/44 (33) (54).

- قال طائفةٌ من العلماء: إنَّ كلمة التوحيد سببٌ مقتضٍ لدخول الجنَّة وللنجاة مِنَ النَّارِ، لكن له شروطٌ، وهي الإتيانُ بالفرائضِ، وموانعُ وهي إتيانُ الكبائر، قال الحسن للفرزدق: إنَّ لـ لا إله إلا الله" شروطاً، فإيَّاكَ وقذفَ المحصنة .

- ذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 4/584. 

-  ورُوي عنه أنَّه قال: هذا العمودُ، فأين الطُّنُبُ، يعني: أنَّ كلمةَ التوحيد عمودُ الفسطاط، ولكن لا يثبتُ الفسطاطُ بدون أطنابه، وهي فعلُ الواجبات، وتركُ المحرَّمات.

- الطنب: جمعها أطناب وطنبة، قال ابن سيده: الطنب حبل طويل يشد به البيت والسرادق بين الأرض والطرائق، وقيل: هو الوتد . انظر: لسان العرب 8/205 (طنب).

- وقيل للحسن: إنَّ ناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنَّة، فقال: من قال: لا إله إلا الله، فأدَّى حقَّها وفرضها، دخلَ الجنَّةَ .

- انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 1/200.

- وقيل لوهب بنِ مُنبِّه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنَّة؟ قال: بلى؛ ولكن ما من مفتاحٍ إلا وله أسنان، فإنْ جئتَ بمفتاحٍ له أسنانٌ فتح لك، وإلاَّ لم يفتح لك .

- أخرجه: البخاري في " التاريخ الكبير " 1/98 (261)، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/66.

- ويشبه هذا ما رُوِيَ عن ابنِ عمر: أنَّه سُئِلَ عن لا إله إلا الله: هل يضرُّ معها عملٌ، كما لا ينفع مع تركها عملٌ؟ فقالَ ابن عمر: عش ولا تغتر.

- أخرجه: معمر في " جامعه " (20553)، وعبد الله بن المبارك في " الزهد " (923)، وابن الجعد في " مسنده " (3381)، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/311.

- وقالت طائفةٌ - منهم: الضحاكُ والزهري -: كانَ هذا قبلَ الفرائض والحدود . 

- انظر في ذلك: الزهد لعبد الله بن المبارك (921)، وشرح صحيح مسلم للنووي 1/200.،

- فمِنْ هؤلاء مَنْ أَشار إلى أنَّها نُسِخَتْ، ومنهم من قالَ: بل ضُمَّ إليها شروطٌ زيدت عليها، وزيادة الشرط هل هي نسخ أم لا؟ فيه خلاف مشهور بين الأصوليين، وفي هذا كلِّه نظرٌ، فإنَّ كثيراً مِنْ هذه الأحاديث متأخر بعدَ الفرائض والحدود.

- وقال الثوري: نسختها الفرائضُ والحدودُ، فيحتمل أنْ يكونَ مرادُه ما أراده هؤلاء، ويحتمل أنْ يكون مرادُه أنَّ وجوبَ الفرائض والحدود تبين بها أنَّ عقوبات الدنيا لا تسقُطُ بمجرَّدِ الشهادتين، فكذلك عقوباتُ الآخرة، ومثل هذا البيان، وإزالة الإيهام كان السَّلفُ يُسَمُّونه نسخاً، وليس هو بنسخ في الاصطلاح المشهور.

- وهذا يدير رأس الباحث ليرى أن من النصوص ما جاء مطلقا، ومنها ما كان مقيدا، ويحمل المطلق على المقيد كما قرر العلماء، وورود المطلق على إطلاقه يراد منه تأكيد المضمون لأهميته، وتوجيه الهمم إليه، وهذا لا يدريه الباحث الذي دعا إلى التفكير، وتكسير القيود!

- وقالت طائفة: هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدة بأنْ يقولها بصدقٍ وإخلاصٍ، وإخلاصُها وصدقُها يمنع الإصرارَ معها على معصية.

- انظر: شرح صحيح مسلم 1/200 و201.

- وجاء من مراسيل الحسن، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: من قال: " لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنَّة " قيل: وما إخلاصها؟ قال: أنْ تحجُزَكَ عمَّا حرَّم الله ".

- ذكره الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " 3/16، والقرطبي في " تفسيره " 10/60، وقد روي هذا الحديث عن زيد بن أرقم مرفوعاً مسنداً. أخرجه: الطبراني في " الكبير " (5074)، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 9/254.

- تحقق القلب بمعنى" لا إله إلا الله " وصدقه فيها، وإخلاصه بها يقتضي أنْ يرسخَ فيه تألُّهُ الله وحده، إجلالاً، وهيبةً، ومخافةً، ومحبَّةً، ورجاءً، وتعظيماً، وتوكُّلاً، ويمتلئَ بذلك، وينتفيَ عنه تألُّه ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك، لم يبقَ فيه محبَّةٌ، ولا إرادةٌ، ولا طلبٌ لغير ما يُريدُهُ الله ويحبُّه ويطلبه، وينتفي بذلك مِنَ القلب جميعُ أهواءِ النُّفوس وإراداتها، ووسواس الشيطان، فمن أحب شيئاً وأطاعه، وأحبَّ عليه وأبغض عليه، فهو إلههُ، فمن كان لا يحبُّ ولا يبغضُ إلا لله، ولا يُوالي ولا يُعادي إلا له، فالله إلههُ حقاً، ومن أحبَّ لهواه، وأبغض له، ووالى عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه،

- وفسره البخاري قال: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله غفر له.

- في البخاري: قال:" ما من عبد، قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " . إلى قوله: " وإن زنى وإن سرق. . . . " الحديث.

- وفسَّره بأن قال بأثره: قال أبو عبد الله: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله، غفر له، فدل قوله هذا على أن من قال: لا إله إلا الله، وإن بَعُد قوله لها عن وقت موته، ثم مات على اعتقادها أنه ممن آخر كلامه لا إله إلا الله، وداخل في معنى التبويب إذا لم يقل بعدها خلافها حتى مات.

- ومعنى الحديث: أن من مات على التوحيد أنه يدخل الجنة وإن ارتكب الذنوب، ولا يخلد في النار بذنوبه كما يقوله الخوارج وأهل البدع!

- إن العظة دائما هي الأمر بالطاعة، والوصية بها، وعظة هذا الحديث الشريف الصحيح هي الأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك والوصية بذلك.

- قوله :" دخل الجنة " إما مع الأولين بمغفرة الله وعفوه أو بعد تعذيبه ثم إخراجه، وقالوا : هو إشارة إلى أن عاقبته دخول الجنة، وإن كان له ذنوب جمة، أو ترك من الأركان شيئا. 

- وفي الحديث دليل على أن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان؛ فإن من ليس بمؤمن لا يدخل الجنة وفاقا، وأنها لا تحبط الطاعات؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - عمم الحكم ولم يفصل.

- قال العلماء: وتكرير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنكار له على استعظامه، أي أتبخل يا أبا ذر برحمة الله؟ فرحمة الله واسعة على خلقه وإن كرهت ذلك؛ فقد قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 

- وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبدُ الله ورسوله وابنُ أمته وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ". متفق عليه. 

- قوله: " على ما كان عليه من العمل " إن التعريف في العمل للعهد، والإشارة به إلى الكبائر

- وقوله- تعالى-: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وهي صريحة في الدلالة لأهل الحق؛ لأن المراد: من مات عَلَى الذنوب بلا توبة، ولو كان المراد: من تاب لما كان فرق بين الشرك وغيره، وقد تظاهرت الأدلة عَلَى ذَلِكَ، وإجماع السلف عليه، وقد احتجَّ البخاري بالآية السالفة.

- قال العلماء: إنَّ مذهب " أهل السنة " بأجمعهم من " السلف الصالح " و " أهل الحديث " و" الفقهاء " و" المتكلمين " على مذهبهم من " الأشعريين ": أنَّ أهل الذنوب في مشيئة الله تعالى، وأنَّ كل من مات على الإيمان وشهد مخلصاً من قلبه بالشهادتين فإنَّه يدخل الجنة، فإن كان تائباً أو سليماً من المعاصي والتبعات دخل الجنة برحمة ربه، وحُرّم على النار بالجملة، فإن حملنا اللفظين الواردين على هذا فيمن هذه صفته كان بيناً، وهو التفات الحسن، وقال البخاري في تأويلهما: وإن كان هذا من المخلطين بتضييع ما أوجب الله عليه، أو فعل ما حرم عليه، فهو في المشيئة لا يقطع في أمره بتحريمه على النار، ولا باستحقاقه لأول حاله الجنة، بل يقطع أنه لابد له من دخول الجنة آخرًا، ولكن حاله له قبلُ في خطر المشيئة، وبرزخ الرجاء والخوف، إن شاء ربُّه عذَّبه بذنبه، أو غفر له بفضله.

- على ما تقدم من أن الذنوب لا توجب التخليد في النار، وأن كل من مات على الإيمان يدخل الجنة حتماً، لكن من له ذنوب في مشيئة الله من معاقبته عليها أو عفوه، ثم لا بد له من دخول الجنة. ويأتي في تأويل هذا الحديث ما تقدم، وقول البخاري هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم وغير ذلك !

- وما ذكره العلماء من كون المسلم لا يكفر بارتكاب المعاصي الكبائر هو مذهب أهل السنة بأجمعهم، وشذ الخوارج فكفروه، والمعتزلة حيث حكموا بتخليده في النار من غير تكفير، ومذهب أهل الحق أنه لا يخلد في النار، وإن ارتكب من الكبائر غير الشرك ما ارتكب، كما جاءت الأحاديث: "وإن زنى، وإن سرق".

- من فتح الباري : قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّجَاءِ الَّتِي أَفْضَى الِاتِّكَالُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ الْجَهَلَةِ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُوبِقَاتِ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ الْقَوَاعِدَ اسْتَقَرَّتْ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَسْقُطْ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ سُقُوطِهَا أَنْ لَا يَتَكَفَّلَ اللَّهُ بِهَا عَمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي ذَرٍّ اسْتِبْعَادَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَيْ صَارَ إِلَيْهَا، إِمَّا ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّلِ الْحَالِ، وَإِمَّا بَعْدَ أَنْ يَقَعَ مَا يَقَعُ مِنَ الْعَذَابِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ 

- وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تَسْلُبُ اسْمَ الْإِيمَانِ وَأَنَّ غَيْرَ الْمُوَحِّدِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَالْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى جِنْسِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعِبَادِ 

- من شرح صحيح مسلم: وهذه الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا سَرَدَهَا مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَحَكَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ الله منهم بن الْمُسَيَّبِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ 

- وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مُجْمَلَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَمَعْنَاهُ مَنْ قَالَ الْكَلِمَةَ وَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرِيضَتَهَا وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

- ويقال للباحث هذا المعنى الذي قرَّره الحسن للحديث، ولم يخطر بباله ما خطر ببالك أنه دعوة للفواحش، وشتان ما بين فهمه، وعقله ليس منفتحا! ، وفهمك وعقلك عقل منفتح!.

- وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ لِمَنْ قَالَهَا عِنْدَ النَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ إِنَّمَا هِيَ إِذَا حُمِلَتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَمَّا إِذَا نَزَلَتْ مَنَازِلَهَا فَلَا يُشْكِلُ تَأْوِيلُهَا عَلَى مَا بَيَّنَهُ الْمُحَقِّقُونَ فَنُقَرِّرَ أَوَّلًا أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَجْمَعِهِمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ أَنَّ أَهْلَ الذُّنُوبِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَشَهَّدَ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَإِنْ كَانَ تَائِبًا أَوْ سَلِيمًا مِنَ الْمَعَاصِي دَخَلَ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ رَبِّهِ وَحَرُمَ عَلَى النَّارِ بِالْجُمْلَةِ، فَإِنْ حَمَلْنَا اللَّفْظَيْنِ الْوَارِدَيْنِ عَلَى هَذَا فِيمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ كَانَ بَيِّنًا وَهَذَا مَعْنًى تَأْوِيلَيِ الْحَسَنِ وَالْبُخَارِيِّ وَإِنْ كَانَ هَذَا مِنَ الْمُخَلِّطِينَ بِتَضْيِيعِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَوْ بِفِعْلِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي الْمَشِيئَةِ لَا يُقْطَعُ فِي أَمْرِهِ بِتَحْرِيمِهِ عَلَى النَّارِ وَلَا بِاسْتِحْقَاقِهِ الْجَنَّةَ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ بَلْ يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لابد مِنْ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ آخِرًا وَحَالُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي خَطَرِ الْمُشِيئَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَذَّبَهُ بِذَنْبِهِ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ بِفَضْلِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِلَّ الْأَحَادِيثُ بِنَفْسِهَا وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِاسْتِحْقَاقِ الْجَنَّةِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهَا لِكُلِّ مُوَحِّدٍ إِمَّا مُعَجَّلًا مُعَافًى وَإِمَّا مؤخرا بعد عقابه وَالْمُرَادُ بِتَحْرِيمِ النَّارِ تَحْرِيمُ الْخُلُودِ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ والمعتزلة في المسألتين

- وَيَجُوزُ فِي حَدِيثِ مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَنْ يَكُونَ خُصُوصًا لِمَنْ كَانَ هَذَا آخِرَ نُطْقِهِ وَخَاتِمَةَ لَفْظِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلُ مُخَلِّطًا فَيَكُونُ سَبَبًا لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ وَنَجَاتِهِ رَأْسًا مِنَ النَّارِ وَتَحْرِيمِهِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ آخِرَ كَلَامِهِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخَلِّطِينَ

- وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ مِنْ مِثْلِ هَذَا وَدُخُولُهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ يَكُونُ خُصُوصًا لِمَنْ قَالَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَنَ بِالشَّهَادَتَيْنِ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِهِ فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مَا يَرْجَحُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَيُوجِبُ لَهُ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَدُخُولَ الْجَنَّةِ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ

- وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى- تَأْوِيلًا آخَرَ فِي الظَّوَاهِرِ الْوَارِدَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اقْتِصَارًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ نَشَأَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي الْحِفْظِ وَالضَّبْطِ، لَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِدَلَالَةِ مَجِيئِهِ تَامًّا فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَا التَّأْوِيلِ، قَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَارًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا خَاطَبَ بِهِ الْكُفَّارَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ كَانَ تَوْحِيدُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى مَصْحُوبًا بِسَائِرِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَمُسْتَلْزِمًا لَهُ !

- هكذا تعالج النصوص من قبل العلماء الدرّاكين لقواعد المعالجة، والذي لا يقدمون نسبة الحديث للوضع، ويريحون أنفسهم من " التفكير " المسدد، كما فعل الباحث لمجرد أنه صدم ضيق أفقه الذي لم يتسع بعلم مصطلح الحديث، وطرائق التأويل السائغ لبعضها!

انتهى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين