الصبر لله تعالى

 

والصبر لله تعالى روح يدور على هذا المحور، عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك ).

 والجملة الأخيرة في الحديث تفند قول ابن الرومي لما مات ابنه.

 وما سرنى أن بعته بثوابه ولو أنه التخليد في جنة الخلد!!

 هذا جزع ولدته ساعة طيش وجنون.

 وخير منه، قول من واسى مؤمنا في فقيدة له (رحمة الله خير لها منك، وثواب الله خير لك منها).

 الصبر لله روح الإيمان، ومناط الثواب الجزيل الذي يصبه الله صبا على من ابتلى، وسلم لله أمره (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).

وعن أبى بردة قال: كنت عند معاوية وطبيب يعالج قروحه في ظهره وهو يتضرر، فقلت له: لو بعض شبابنا فعل هذا لعبنا عليه، فقال: ما سرني أني لا أجده، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يصيبه أذى في جسده إلا كان كفارة لخطاياه).

 وعن أبى هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قال الله تبارك وتعالى: إذا ابتليت عبدى المؤمن فلم يشكني إلى عواده، أطلقته من أسارى، ثم أبدلته لحماً خيرا من لحمه، ودماً خيرا من دمه، ثم يستأنف العمل) .

 ومعنى الحديث: أن الصحة التي تعود للمريض تجدد له جسده، وأن صبره على ما نزل يمحو ماضيه السيء كله، ويفتح له صفحة جديدة لا سوء فيها...

 وعن أميمة رضي الله عنه: أنها سألت عائشة رضى الله عنها عن قوله تعالى: [وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ] {البقرة:284} 

 وقوله: [مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ] {النساء:123} ، فقالت عائشة رضي الله عنها: ما سألني أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة، حتى البضاعة يضعها في كمه، فيفقدها فيفزع لها، فيجدها في ضبنه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج الذهب الأحمر من الكير)،  الضبن: ما بين الإبط والكشح.

 والأحاديث كثيرة في أن المرض يمحص المؤمن، وينقي نفسه، ويغسل ذنوبه.

 عن عبد الرحمن بن أبى بكر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل العبد المؤمن حين يصيبه الوعك والحمى كحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها)، وذلك طبعاً للصابر المحتسب، المستكين لقضاء الله سبحانه الراجي عفو الله تعالى.

 وقد بلغ من فضل الله تعالى على المؤمنين به أن فتح لهم باب الأمل في واسع مغفرته، إذا صدقوا الصبر في عناء ليلة واحدة، فعن الحسن البصري يرفعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله ليكفر عن المؤمن خطاياه كلها بحمَّى ليلة)، وفى رواية: كانوا يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجون في حمَّى ليلة كفارة لما مضى من الذنوب.

 ونحن نعرف أن توبة نصوحاً تغمر قلب امرئ في ساعة من ليل أو نهار تطهر ماضيه كله، وأنَّ رحمة الله وسعت كل شيء، بيد أننا نحسب حديث الحسن وأمثاله إنما يصور السبب المباشر لنيل المغفرة، ولا يصور الأسباب كلها.

إن الحروب الكبرى قد تقع إثر حادث محدود أو اشتباك تافه فهل هذا أو ذاك هما أسباب الحرب؟ كلا، إن الخلافات الماضية، والعداوات الأصيلة، والقوى المعبأة، والرغبات الكامنة في تسوية الموقف هي التي تشعل نار الحرب وتستبقيها سنين عدداً، وما الحادث الذي وصفوه بأنه سبب الحرب إلا الفرصة التي انتهزت لتفريغ ما في النفوس، كذلك القول بأن صداعا يصيب المؤمن يكفر عنه ما مضى.

 الحق أن أصل الصبر في نفسه، واختلاط هذا الصبر بأحواله وأعماله كلها هو الذي رشحه لما رأينا.

 وحال ليلة يعد من نظرنا أنموذجاً لشمائل حياة، كما قيل لدريد: 

تقول: ألا تبكى أخاك؟ وقد أري مكان البكا، لكن بنيت على الصبر!

وقد وصف الله تعالى المؤمنين بخلال طيبة كثيرة، في مقدمتها الصبر، [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ(23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(24) ]. {الرعد}. 

 ولماذا يكون التسليم عليهم مقروناً بما صبروا فقط مع أنهم أدخلوا الجنة بشمائل كثيرة؟.

الواقع أنَّ الصبر عنصر أصيل في بقية الأعمال الأخرى من صلاة ونفقة وإصلاح، إنه الخيط الذي جمعها، بل هو في كيانها كالماء في صنوف الأحياء...

 قال ابن القيم: لما كان الصبر المحمود هو الصبر النفساني الاختياري عن إجابة داعي الهوى المذموم كانت مرتبته وأسماؤه بحسب متعلله،  

فإنه إن كان صبراً عن شهوة الفرج المحرمة سمى عفة، وضدها الفجور والزنا والعهر.

وإن كان عن شهوة البطن، وعدم التسرع إلى الطعام، أو تناول ما لا يجمل منه سمى شرف نفس، وشبع نفس، وسمى ضده شرها ودناءة، ووضاعة نفسر.

وإن كان عن إظهاره ما لا يحسن إظهاره من الكلام سمي كتمان سر، وضده إذاعة وإفشاء، أو تهمة أو فحشاء، أو سباً أو كذباً أو قذفاً.

وان كان عن فضول العيش سمى زهداً، وضده حرصاً.

 وإن كان على قدر ما يكفي من الدنيا سمي قناعة وضدها الحرص أيضاً.

وإن كان عن إجابة داعي الغضب سمي حلماً، وضده تسرعاً.

 وإن كان عن إجابة داعي العجلة سمي وقاراً وثباتاً، وضده طيشاً وخفة.

 وإن كان عن إجابة داعي الفرار والهرب سمي شجاعة، وضده جبناً وخوراً.

 وإن كان عن إجابة داعي الانتقام سمي عفواً وصفحاً، وضده انتقاماً وعقوبة.

 وإن كان عن إجابة داعي الإمساك والبخل سمي جوداً، وضده بخلاً.

 وإن كان عن إجابة داعي الطعام والشراب في وقت مخصوص سمي صوماً.

 وان كان عن إجابة داعي العجز والكسل سمى كيساً.

 وإن كان عن إجابة داعي إلقاء الكل على الناس، وعدم حمل كلهم سمي مروءة.

 فله عند كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه.

 والاسم الجامع لذلك كله (صبر)

 وهذا يدلك على ارتباط مقامات الدين كلها بالصبر من أولها إلى آخرها.

 وهكذا يسمى عدلاً إذا تعلق بالتسوية بين المتماثلين وضده الظلم ويسمى سماحة إذا تعلق ببذل الواجب والمستحب بالرضا والاختيار، وعلى هذا جميع منازل الدين أ. هـ.

 والذى يتبادر إلى أذهان العامة أن الصبر يستحب لمواجهة المآسي والآلام، ولا ريب أن عمل الصبر في هذه المواطن مطلوب.

 بيد أن عمل الصبر في النفس إبقاؤها في مجال الاعتدال والتؤدة والبصر.

 وإذا كانت الضراء تخرج الناس عن وعيهم حيناً، فإن السراء تخرج الناس عن وعيهم أحياناً.

 ولاتصال النعمة سَكرة تستفز بعض الضعاف، وتدفعهم إلى ما لا يليق من بطر وجهل.

من أجل ذلك أوجب الإسلام الصبر على المسلم في حاليه من خير وشر ونفع وضر، قال تعالى [وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ(9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ(10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(11) ]. {هود}..

والصبر بهذا الشمول امتلاك أزمة النفس كلها حتى لا تشرد بها الأهواء والأنواء يمنة أو يسرة.

ومن الحكم التي رواها ابن الجوزي: (إن لله عز وجل يوماً لا ينجو من شره منقاد لهواه).

 وإن أبطأ الصرعى نهضة يوم القيامة صريع شهوة.

 وإن العقول لما جرت في ميادين الطلب كان أوفرها حظاً من يطالبها بقدر ما استصحبته من الصبر ـ يعنى أن الذكاء المجرد لا يكفي في إحراز النجاح إن لم يصحبه دأب على العلم، وتحمل لأعبائه، ألا ترى الأرنب الذي اعتمد على سرعته الطبيعية، غلبته سلحفاة لأنه ركن إلى قدرته فَلَهَا وعرفت هي بطأها فثابرت؟ كذلك اللهو يخذل العقول!.

 وإن العقول معدن والفكر معول ، يعنى أن التفكير يتطلب جهداً وكداً وكم عرق الأذكياء من إعمال الفكر كما يعرق الفلاح وهو يضرب الأرض بفأسه غاية ما هنالك أن العامل بيديه أصح بدناً، وأن العامل بعقله أدنى إلى الإعياء..!!

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين