أسامة بن منقذ

 

 

حدث في الثاني والعشرين من رمضان

 

في الثاني والعشرين من رمضان من سنة 584 توفي في دمشق، عن 96 سنة، الأمير أسامة بن منقذ، مؤيد الدولة أبو الحارث وأبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ، وكان رحمه الله أحد الشعراء المشهورين، والأمراء الكبار في عصر الدولتين الفاطمية والأيوبية، وهو من أكابر بني منقذ ملوك شيزر، وهي مدينة على العاصي شمالي غرب حماة، بها قلعة حصينة كانت لآل منقذ الكنانيين، يتوارثونها من أيام صالح بن مرداس سنة 417، ويسميها الصليبيون Shayzar (Cesarea-on-the Orontes).

 

ولد في شيزر سنة 488، ونشأ بها، وكان في شبيبته شهما شجاعا، قتل الأسد وحده مواجهة، وقاد عدة حملات على الصليبيين في بلاد الشام، وقدم دمشق سنة 532، وخدم بها السلطان محمود بن بوري وقَرُب منه، وكان بين آل منقذ وبين البوريين مصاهرة، ثم جرت له نَبوَة معه، فسافر إلى مصر ليصبح أحد رجال البلاط الفاطمي.

 

وكانت الدولة الفاطمية قد تمكن منها الضعف في تلك الفترة، وأصبح الخليفة صورة ورمزاً، والأمر والنهي بيد الوزير، وأصبح الوزراء يسعون لتولية الخلفاء من الصغار ضماناً للسيطرة عليهم، وفي سنة 549 دبّر الوزير عباس بن أبي الفتوح قتل الخليفة الظافر، وعين ابنه الفائز بنصر الله وهو في الخامسة من عمره، فاستنجد أهل الخليفة القتيل بأمير الـمُنْية طلائعِ بن رزيك الذي أنجدهم، وأصبح هو بدوره الحاكم الفعلي، وهرب الوزير عباس إلى الشام فطلبت أخت الظافر من الفرنج في عسقلان أن يعترضوه ويقتلوه وبذلت لهم المال، ففعلوا ذلك.

 

وكان أسامة صديقاً ومستشاراً للوزير المقتول، بل قيل إنه هو الذي أشار عليه بقتل الخليفة، فلما قتل الفرنج الوزير، هرب أسامة إلى دمشق سنة 549  ثم برحها إلى حصن كيفا - وهي اليوم Hasankeyf شرقي دياربكر جنوبي تركيا - فأقام فيه إلى أن مَلَكَ السلطان صلاح الدين الأيوبي دمشق، فدعاه السلطان إليه، فأجابه وقد تجاوز الثمانين، فقدم على الملك صلاح الدين في سنة 570 وأنشده:

 

حَمدتُ على طول عمري المشيبا ... وإن كنتُ أكثرتُ فيه الذنوبا

لأني حييتُ إلى أن لقيتُ ... بعدَ العدو صديقاً حبيبا

 

وكانت داره بدمشق معقلاً للفضلاء، ومنزلاً للعلماء، وكيف لا وهو صاحب أشعار رائقة، ومعان فائقة، ولديه علم غزير، وعنده جود وفضل كثير، وروى ورُويَ عنه، وله تصانيف في الأدب والتاريخ، منها الاعتبار، ولباب الآداب، والبديع في نقد الشعر، والمنازل والديار، والنوم والأحلام، والقلاع والحصون، وأخبار النساء، والعصا.

 

و قد خرب حصن شيزر بالزلزال في سنة 552، ومات كلُّ من فيه من بني منقذ تحت أنقاضه، إلا امرأة من كبارهم، وكان أسامة وإخوته خارج الحصن فنجوا، ودفع هذا الحدث الأليم أسامة إلى تأليف كتابه المنازل والديار الذي ضمّنه مختاراته من أشعار العرب منذ الجاهلية إلى أيامه، مما قيل في الأوطان والمغاني والأطلال والآثار والمدن والأهل والأحباب، وحققه وعلق عليه الأستاذ المحقق شعيب الأرناوط، ونشر في دمشق سنة 1965. وفيه يقول أسامة بن منقذ واصفاً مرابع أهله وقد أصابتها يد الحدثان: ولقد وقفت عليها بعد ما أصابها من الزلازل ما أصابها، وهي أول أرض مسَّ جلدي ترابُها، فما عرفت داري، ولا دور والدي وإخوتي، ولا دور أعمامي وبني عمي وأسرتي، فبُهِتُّ متحيرا مستعيذا بالله من عظيم بلائه، وانتزاع ما خوَّله من نعمائه، إلى أن قال: وقد جعلت الكتاب فصولا، فافتتحت كل فصل بما يوافق حالي، ثم أفَضتُ فيما يوافق ذا القلب الخالي، لكي لا يأتي الكتاب وهو كله عويل ونياحة، ليس فيه لسوى ذي البث راحة.

 

أما كتاب الاعتبار فيروي فيه أسامة، بعد أن بلغ التسعين من العمر، قدراً كبيراً من حصاد عمره المديد من قصص وتجارب في نشأته بشيزر ورحلته إلى مصر وحصن كيفا وجهاده للصليبين، وهو كتاب ماتع مفيد، ينقل صورة واقعية عن تلك الحقبة، ويتطرق لمواضيع معيشية قلَّ أن يتطرق لها المؤلفون والمؤرخون. وقد طُبع الكتاب مرات وترجم إلى الفرنسية والألمانية والإنجليزية.

 

ومن أولاده أبو الفوارس عضد الدولة مرهف بن أسامة أحد أمراء مصر، وكان مسناً معمراً شاعراً كوالده، وجمع من الكتب شيئاً كثيراً، وتوفي سنة في مصر 613 عن 93 عاماً، ذكر ياقوت الحموي أنه باع أربعة آلاف مجلد من كتبه في نكبة لحقته فلم يؤثر ذلك فيها.

 

ولأسامة بن منقذ ديوان شعر كبير، كان صلاح الدين يفضله على سائر الدواوين، ومن مشهور شعره ما قاله في سِنٍّ قَلَعها وفَقَدَ نفعَها:

وصاحبٍ لا أمَلُّ الدهرَ صحبتَه ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهدِ

لم ألْقَه مُذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظريَّ افترقنا فُرقة الأبد

 

وإلى جانب القصائد الطوال اشتهرت مقطّعات أسامة بن منقذ وتناقلتها الألسنة، لسهولة لغتها ومعانيها المبتكرة، ومنها:

لا تَستَعِرْ جَلَداً على هِجرانهم ... فقُواك تَضعُفُ عن صدودٍ دائمِ

واعلم بأنك إن رجعتَ إليهم ... طوعاً وإلا عُدتَ عودة نادم

 

له أيضا:

واعجب لضَعف يدي عن حملها قلماً ... من بعد حَطْمِ القَنا في لَبَّة الأسدِ

وقل لمن يتمنى طولَ مدته ... هذي عواقب طول العمر والمُدد

 

وله:

شكا ألمَ الفراق الناسُ قبلي ... ورُوِّعَ بالنوى حيٌّ وميْتُ

وأما مثلَ ما ضمت ضلوعي ... فإني ما سمعتُ ولا رأيتُ

 

وله:

إذا أدمت قوارصُكم فؤادي ... صبرتُ على أذاكم وانطويتُ

وجئتُ إليكم طَلقَ المُحيّا ... كأني ما سمعت وما رأيت

 

وله:

انظر إلى لاعب الشطرنج يجمعها ... مغالباً ثم بعد الجمع يرميها

كالمرء يكدحُ للدنيا ويجمعها ... حتى إذا مات خلاها وما فيها

 

وله:

وما سكنت نفسي إلى الصبر عنكم ... ولا رضيت بُعْدَ الديار من القُربِِِ

ولكنَّ أيامي قضت بشَتاتنا ... ففارقكم جسمي وجاوركم قلبي

ولو جمعتنا الدار بعد تفرقٍ ... لكنتم من الدنيا وزينتها حسبي

 

وكتب على حائط دار سكنها بالموصل مغترباً:

دارٌ سكنتُ بها كُرها وما سكنت ... روحي إلى شجن فيها ولا سكنِ

والقبرُ أستر لي منها وأجمل بي ... إن صدني الدهر عن عَودي إلى وطني

 

وكتب على حائط جامع:

هذا كتاب فتى أحلّته النوى ... أوطانَها ونَـبَت به أوطانُهُ

شطّت به عمن يحب ديارُه ... وتفرقت أيدي سباً إخوانُه

متتابع الزفرات بين ضلوعه ... قلب يبوح ببثه خفقانه

تأوي إليه مع الظلام همومه ... وتذوده عن نومه أشجانه

لكنه لا يستكين لحادث ... خوف الحِمام ولا يُراع جَنانه

ألِفَتْ مقارعةَ الكماة جيادُه ... وسُرى الهواجر لا تني ذَملانُه

يومان أجمع دهره إما سُرى ... أو يوم حرب تلتظي نيرانه

 

وله:

عاشوا براحتهم ومُتُّ لفقدهم ... فعليَّ يبكي لا عليهم من بكى

وبقيت بعدهم كأني حائر ... بمفازة لم يَلقَ فيها مسلكا

 

وله:

أراني نهارُ الشيب قصدي وطالما ... تجاوز بي ليلُ الشباب سبيلي

وقد كان عذري أن أضلنيَّ الدُجى ... فهل ليَّ عذر والنهار دليلي

 

وله:

إذا ما عدا خطبٌ من الدهر فاصطبر ... فإن الليالي بالخطوب حواملُ

وكل الذي يأتي به الدهر زائل ... سريعاً فلا تجزع لما هو زائل

 

ولما خرج من مصر قال:

ولا تسأليني عن زماني فإنني ... أنزه عن شكوى الخطوب لساني

ولكن سلي عني الزمان فإنه ... يحدِّث عن صبري على الحَدَثان

رمتني الليالي بالخطوب جهالةً ... بصبري على ما نابني وعراني

فما أوهنت عزمي الرزايا ولا لها ... بحسن اصطباري في الـمُلِم يدان

وكم نكبةٍ ظن العدى أنها الردى ... سَمَت بي وأعلت في البرية شاني

وما أنا ممن يستكين لحادث ... ولا يملأ الهولُ المخوف جَناني

وإن كان دهري غَالَ وَفْري فلم يَغِل ... ثنائي ولا ذكري بكل مكان

وما كان إلا للنوال وللقِرى ... وغوثاً لملهوفٍ وفدية عان

حُمدتُ على حالي يسار وعسرةٍ ... وبُرزّتُ في يومي ندى وطعان

ولم أدخر للدهر إن راب أو نبا ... وللخَطبِ إلا صارمي وسناني

لأن جميل الذكر يبقى لأهله ... وكل الذي فوق البسيطة فانِ

 

وله:

أساكنَ قلبي والمهامِهُ بيننا ... وإنسانَ عيني والمزار بعيد

تُمثِلُك الأشواقُ لي كل ليلة ... فهَمِّي جديدٌ والفراق مديد

 

وله:

يا رب إنَّ إساءتي قد سوّدت ... بيد الكرام الكاتبين صحائفي

والخوف منك ومن عقابك مقلقي ... فارحم مخافة ذي الفؤاد الراجف

من خاف شيئاً فرّ منه هارباً ... وإليك منك مفر عبد خائف

 

وله:

يا ربِّ حُسنُ رجائي فيك حسَّنَ لي ... تضييعَ وقتيَ في لغو وفي لَعبِ

وأنتَ قُلتَ لمن أضحى على ثقة ... بحسن عفوك: إني عند ظنك بي

رحمه الله رحمة واسعة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين