الحسبة التي ظلمها الغُلاة

 

"نحيطكم علماً أنه سيكون انتشار أمني واسع في أرجاء مدينة إدلب وسيُحال زوج كل مخالفة للباس الشرعي للقضاء". هذا ما نشره أحد إعلاميّي جبهة النصرة بعد الحادثة السخيفة التي شهدتها مدينة إدلب قبل يومين، حينما اصطدمت بعض الحمقاوات اللاتي يعملن باسم "الحسبة" في إدلب ببعض نساء المدينة بحجّة عدم التزامهنّ بالزي الشرعي، بمعنى: كشف الوجه وارتداء لباس ملوّن سوى السواد.

 

أول ما يخطر ببال من يقرأ هذا الهُراء هو أن إدلب تتحول بسرعة إلى رقة ثانية، ولهذا التحول سبب مفهوم، فبعدما فقدت "القاعدة" عاصمتَها في الرقة (أو أوشكت أن تفقدها) فإنها بحاجة إلى عاصمة جديدة، وكما حرقوا الرقة سيحرقون إدلب، فكل شيء عندهم يهون في سبيل تحقيق أحلامهم الموهومة المجنونة.

 

*   *   *

 

بعيداً عن "إدلب على خُطى الرقة وجبهة النصرة على خُطى داعش" يبرز السؤال: إلى متى يستمر هؤلاء الجهلة في تشويه الدين؟

 

لقد أساؤوا بجهلهم وحمقهم إلى الإسلام وإلى الحسبة التي هي من مفاخر الحضارة الإسلامية، حينما جعلوا عملها إجبار المحجبات على تغطية وجوههنّ وإكراه أصحاب المتاجر على قفل متاجرهم وقت الصلاة ومصادرة أقراص الموسيقى وعلب الدخان من الأسواق. وكل ذلك من المسائل الفرعية الخلافية، فوجه المرأة ليس عورة واجبة الستر عند جمهور علماء الأمة، والصلاة جماعةً في المساجد خيرٌ من الإفراد لكن صلاة الفرد في دكانه جائزة بلا خلاف، والموسيقى والدخان من المسائل الخلافية التي عجزت عن حسمها القرون الطوال.

 

ليست المأساة في أن هؤلاء الجهلة تركوا عظائم الأمور، كالدم المعصوم الذي أهرقته جماعتهم في أرضنا أنهاراً بلا حساب، ثم اشتغلوا بالشكليات والخلافيات، بل المأساة الأكبر أنهم شوّهوا مفهوم الحسبة، فظن العامة أنها هي هذه الممارسات السخيفة التي أرهقوا بها الناس وأثاروا النزاعات.

 

*   *   *

 

يتصور غلمان القاعدة وداعش أن الحسبة هي حرق علب الدخان وفرض النقاب على النسوان، ويجهلون أنها نظام كامل لحماية المجتمع من الاستغلال الاقتصادي والفساد الأخلاقي وصيانته عن المحرمات والفواحش الظاهرة (المحرمات القطعية التي يجاهر بها أصحابها ولا يستَخْفون).

 

لعل أول عمل احتسابي معروف في الإسلام كان من باب "حماية المستهلك"، حينما مرّ النبي عليه الصلاة والسلام في السوق بتاجر يعرض كومة من تمر (صُبْرة طعام كما في حديث أبي هريرة) فأدخل فيها يده فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله (أي أنه تبلل بالمطر) فقال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غَشّ فليس مني".

 

وكان عمر يمارس ذلك النوع من الاحتساب بنفسه، فيمرّ في السوق يراقب المكاييل والموازين ويأمر بإماطة الأذى عن الطريق، ويحمل معه دِرّته الشهيرة فيزجر بها المُغالين والغشاشين، بل إنه خفق بها ذات يوم جَمّالاً أوقر بعيره بالأثقال وقال له: لقد حمّلت جملك ما لا يطيق. فعلمنا أن الاحتساب يعمّ حتى يشمل حماية حقوق الحيوان، ولا يقتصر على حماية حقوق المجتمع الآدمي فحسب!

 

ثم صار الاحتساب عملاً منظماً زمنَ العباسيين، فكان المحتسب مسؤولاً عن مراقبة الموازين والمكاييل ومنع الغش والاحتكار في الأسواق، والإشراف على نظافة الشوارع والمساجد والبيمارستانات (المستشفيات)، ونظافة أوعية السقّائين والخبازين والقصّابين. وكان يضبط أصحاب الحِرَف لئلا يغشّوا الناس؛ روى ابن أبي أصيبعة في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" أن المقتدر العباسي أمر رئيس الأطباء، سنان بن ثابت، بامتحان جميع أطباء بغداد، وكانوا قريباً من تسعمئة، وأمر المحتسبَ أن يمنع أي طبيب من العمل إلا بعد نجاحه في الامتحان. وفي "نفح الطبيب" أن المحتسب في الأندلس كان يسعّر السلع الأساسية، كالخبز واللحم، ويأمر البيّاعين بأن يضعوا عليها أوراقاً بأسعارها، فمن باع بأكثر من السعر الرسمي استدعاه وعاقبه. وعدّ ابن خلدون في المقدمة من أعمال المحتسب منعَ الباعة من تضييق الطرقات ببضائعهم والحمالين وأصحاب السفن من زيادة الأحمال، والحكمَ على أصحاب المباني المتداعية بهدمها وإزالة ما يُتوقّع من ضررها على السابلة (المشاة).

 

هذا فضلاً عن منع الجهر بالفواحش والمحرمات. وقد بلغ من هيبة المحتسب وقوّته أنه يعاقب من يتجاوز القانون ولو كان من القادة والأمراء؛ روى نظام الملك في كتاب "سِيَر الملوك" (سياست نامه) أن علي بن نوشتكين، وهو أحد كبار القادة زمن السلطان محمود بن ملكشاه السلجوقي، أنه شوهد سكرانَ في السوق وهو في موكب عظيم من الفرسان والأتباع، فأخذه المحتسب وطرحه على الأرض وجلده أربعين جلدة، والعسكر والحاشية ينظرون ولا يجرؤون على مساعدته وإنقاذه.

 

*   *   *

 

يا جبهة النصرة: اعرفوا ما هي الحسبة قبل أن تطلقوا الجَهَلة الغِلاظ القساة من محتسبيكم ومحتسباتكم على الناس. حاسبوا مجرميكم وأمنييكم واجلدوهم بين أيدي الناس في الأسواق، ثم أرونا بعد ذلك مراجلكم على النسوان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين