زكاة الفطر

 

قضت حكمةُ الله تعالى البالغة، ورحمته الواسعة، أن يجعل للمسلمين في كل عام شهر رمضان موسماً للخير، ومَغْنماً للأجر، ومبرَّة بالفقراء، وميداناً للطاعات، يَغْنمه العاصي ليتوب من ذنبه، ويرجو المغفرة من ربِّه، ويغنمه الطائع ليستزيد من فضل الله تعالى ومثوبته ورضوانه، ويغنمه الغني لينفق من ماله، وينتظره الفقير ليسدَّ حاجته، ويفرج كربته.

فرض الله تعالى صوم نهاره تقوية للمسلم على كبح جماح نفسه، وترك شهواته ابتغاء مرضاة الله تعالى، وندب له إحياء لياليه بالقرآن وذكر الله سبحانه إحياء لضميره، وتقوية لإيمانه، وجعل ليلة القدر إحدى لياليه، ولم يعين أي ليلة هي، ليلتمسها الصائم في كل لياليه بالبر والخير، والتوبة والإنابة، وجعل آخره عيداً للفقراء والمساكين، وموسماً للبر بالمحتاجين والبائسين، فهو شهر كله خير، وختامه عيد البر.

حكمتها:

أوجب الله سبحانه على المسلم إذا أفطر من آخر يوم في رمضان زكاة الفطر من صيامه، لحكم سامية عديدة.

أولها: أنها شكر من الصائم لله تعالى على ما منَّ به عليه من توفيقه لاحتمال هذه المشقة، وتيسير أداء هذه الفريضة عليه.

ثانيها: أنها تكفير لما يحتمل أن يكون بدر من الصائم من هفوة أو تقصير.

ثالثها: أنها امتحان للصائم وما أثمر الصوم في نفسه من رفق وعطف ورحمة وشعور بألم المحتاجين وحاجة البائسين.

رابعها: أنها بر بالفقراء في يوم فرح وسرور، ليكون الفرح عاماً والابتهاج بالعيد شاملاً، ولا يضيق الفقير بفقره في يوم ينعم فيه الأغنياء بالسعة والنعمة.

روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صدقة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، طُعمة للمساكين، فمن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقة).

وقد اتفق الرواة على أنها شُرع إيجابها في السنة الثانية للهجرة، وهي السنة التي فرض فيها صوم رمضان، وتسمى زكاة الفطر، وصدقة الفطر؛ لأنَّ سببها الفطر من صوم رمضان.

حكمها:

اتفق الأئمَّة المجتهدون على أنَّ زكاة الفطر واجبة، والواجب شرعاً: ما يُثاب فاعله ويعاقب تاركه، والدليل على إيجابها الحديث الصحيح المشهور الذي اتفق على روايته أصحاب السنن الستة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحرِّ والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين).

وقت وجوبها:

اتفق الأئمة على أنَّ وقت وجوبها هو آخر رمضان ومبدأ شوال، ولكنهم اختلفوا في تعيين مبدأ شوال، فالحنفية اعتبروا مبدأ شوال طلوع فجر يوم عيد الفطر الذي هو أول يوم من شوال، فقالوا: ووقت وجوبها من طلوع فجر يوم عيد الفطر، وغيرهم اعتبروا مبدأ شوال بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان، فقالوا: وتجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان، واتفقوا جميعاً على أنَّ الوقت الذي يستحب شرعاً أداؤها فيه هو صباح يوم العيد قبل صلاة العيد، للمبادرة إلى إدخال السرور على الفقراء، من أول ذلك اليوم، وليطمئن الفقير من ابتداء اليوم إلى قضاء حاجته وتفريج كربته، وفي مذهب الحنفية يجوز إخراجها قبل يوم العيد وبعده.

وفي مذهب الشافعية يجوز تعجيلها من أول يوم من رمضان، ويحرم تأخيرها عن يوم العيد إلا لعذر، وفي مذهب المالكية يجوز إخراجها قبل العيد بيومين لا أكثر. 

والأرفق بالناس مذهب الحنفية، فزكاة الفطر في رمضان واجبة، وقد وسَّع الشارع وقت أدائها، فمن أدَّاها في صباح يوم العيد قبل الصلاة فقد أدَّاها في أفضل أوقات أدائها، ومن أداها قبل ذلك أو بعده فقد قام بالواجب ولا إثم عليه ولا حرج.

على من تجب؟

تجب على الحرِّ المسلم القادر عن نفسه وعن كل من تلزمه نفقتهم من أولاده الصغار والكبار العاجزين عن الكسب، وزوجته وخدمه، فعلى رأس الأسرة أن يحصي الأفراد المكوَّنة منهم أسرته الذين يعولهم وينفق عليهم، ويخرج زكاة الفطر عن نفسه وعنهم؛ لأنَّ هذه زكاة النفس وفيها مؤونة كل نفس، فكل من وجب على المرء نفقته وجبت عليه زكاة فطره، واختلفوا في حدِّ القدرة، وفي المراد من القادر، فقال الحنفية: القادر هو من ملك نصاباً زائداً عن حاجاته الأصليَّة، والنصاب هو اثنا عشر جنيهاً من الذهب أو ما يعادلها.

وقال سائر الأئمة: القادر هو من قدر على أدائها مما زاد عن حاجته وحاجة عياله سواء ملك نصاباً أو لم يملك. وهذا القول هو الذي يتفق وحكمة زكاة الفطر ومصلحة الفقراء، فما دام المرء يجد عنده ما يزيد عن حاجته وقوت عياله في ذلك اليوم فلينفق في سبيل الله تعالى من هذا الفضل، والأصل في هذا الحديث: (إنما الصدقة عن غنى) [أخرجه الإمام أحمد وغيره]، فالحنفية فسَّروا الغنى بملك النصاب، وغيرهم فسَّروا الغنى بالاستغناء وعدم الحاجة.

من أي شيء تجب؟

وتؤدى الزكاة من غالب قوت البلد الذي فيه المزكي، والأقوات الغالبة: القمح والذرة والشعير والفول والأرز، والذين قالوا تؤدى من أربعة أشياء: القمح والشعير والتمر والزبيب ليس مرادهم الحصر، وإنما كانت هذه الأربعة القوت الغالب في عهدهم، فسكان المدن يؤدونها من القمح، وسكان القرى يؤدونها من الذرة، وبعض الأعراب يؤدونها من الشعير، فكل واحد يتصدق على الفقير في ذلك اليوم مما يَقتات هو منه.

مقدار الواجب:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما قدَّمناه صريح في أنَّ مقدر الواجب صاع من تمر أو صاع من شعير، وقد كان التمر والشعير هما القوت الغالب في المدينة وقت التشريع، فالرسول صلى الله عليه وسلم أوجبَ صاعاً من القوت الغالب، وبهذا أخذ الأئمَّة مالك والشافعي وأحمد فقالوا: الواجب صاع من القوت الغالب سواء كان قمحاً أو ذرة أو شعيراً أو تمراً، فليس في مذهبهم تفريق بين قُوت وقُوت. 

وأما الحنفيَّة فنظروا إلى قيمة الأقوات، وإلى أنَّ الواجب على كل شخص يجب أن يكون معادلاً في قيمته ما يجب على الآخر، ولهذا قالوا: إنَّ الواجب من القمح نصف صاع، والواجب من الشعير صاع، لأنَّ نصف الصاع من القمح يعدل الصاع من الشعير، وأساس هذا الخلاف ما رواه أصحاب السنن الستة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نخرج زكاة الفطر، إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط (1) فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية رضي الله عنه المدينة فقال: إني لأرى مُدَّين من سمراء الشام يعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه).

والصاع: قدحان وثلث بالكيل المصري، ففي مذهب الحنفية يجب على الشخص الواحد قدح وسدس من القمح، وقدحان وثلث من الشعير، فالكيلة من القمح تجزئ عن ستة، والكيلة من الشعير تجزء عن ثلاثة. 

وفي مذهب الحنفيَّة يجوز أداء قيمة الواجب؛ لأنَّ دفع القيمة أنفع للفقير.

لمن تؤدى؟

تُدفع صدقة الفطر للفقراء والمساكين والمحتاجين من أقارب المتصدق أولى، وإذا دفعها المتصدق لمبرَّة تُعالج فيها المرضى الفقراء أجزأه ذلك؛ لأنَّ مصارف الصدقات الثمانية منها: [وَفِي سَبِيلِ اللهِ] {التوبة:60}. والمراد بسبيل الله تعالى: كل ما هو مصلحة عامَّة وبر شامل، سواء في ذلك الحج والجهاد وإسعاف المنكوبين وعلاج المرضى الفقراء، وملاجئ الأيتام، فكل من تصدق في هذه المبرات فصدقته في سبيل الله.

(1) الأَقِط بفتح الهمزة وكسر القاف: لبن يابس غير منزوع زبده.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الأول، المجلد الثالث، رمضان 1368 يونية 1949).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين