أهل الرحمة في القرآن العظيم-1-

 

لأهل رحمة الله صفات في الكتاب والسنة تميزوا بها عن غيرهم وعرفوا، ونحن في هذه المقالات التي تأتي تباعاً بإذن الله تعالى نحاول إبراز تلك الصفات عسى الكريم بفضله أن يجعلنا منهم.

 وأول صفات أهل الرحمة في القرآن: أنهم قوم مؤمنون، قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}.

إن الإيمان ليست كلمة تقال باللسان، ولا بياناً يشار إليه بالبنان، أو شعاراً يتبع أو ضياء يبرق ساعة ويختفي أعواماً! لا، إنه حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى تحمل، فلا يكفي الناس أن يقولوا: آمنا وهم لا يؤيدون هذه الدعوى ببرهان جلِي يدللون بها على دعواهم، إن الإيمان طريق ليس مفروشاً بالورود، بل بالأشواك حتى يتبين الخبيث من الطيب، وحتى يخرج منه أتباعه صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب؛ لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به، وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب المؤمنة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.

ثم إن صفة الإيمان صفة جالبة لرحمة الله عز وجل، دالة عليه، وثمرتها الاعتصام متى صح الإيمان، ومتى عرفت النفس حقيقة الله، وعرفت حقيقة عبودية الكل له، فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} فهو وحده صاحب السلطان، والقدرة، والخلق إليه مفتقرون.

إنه الإيمان الذي به تستمطر رحمة الله، إنه الإيمان الذي به تنتظم حياة الإنسان انتظاماً لحياة المجتمع، فالمؤمن الحق يؤمن بحقيقة أكيده أنه عبد مذلَّل لسيده وفقط، هو عبد لا لحجر، ولا شجر، ولا بشر، ولا بقر فلا يهاب البشر مهما اختلفت درجاتهم؛ لأنه ليس عبداً لأي منهم، وبذا يجعله الإسلام سيد نفسه كلمته حرة، ورأيه مصون، وليس هذا في أي نظام آخر غير نظام الإيمان، كما جاء به الإسلام، هذا النظام الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.

إنه الإيمان الذي تتجلى فيه حقيقة القدرة الإلهية، فتجعل من صاحبها ملكاً، وإن لم يعرف الملكية، ولا أبوابها، إنه يميت في صاحبه الضعف الإنساني، والخور الفطري؛ ليجعل منه واحداً لا يرهب في ذات الله أحداً، ولا يعظم مع أعداء دينه بشر.

وقصة واحدة من تراثنا الزاخر تبرز لنا حقيقة هذا الإيمان المتجلي في هذه الصفوة المؤمنة الصابرة في «الصحيحين» عن صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده قال: «إني لواقف يوم بدر في الصف، فنظرت، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم! أتعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك؟ قال: أُخبِرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده إن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما، يقول معاذ بن عمرو: جعلت أبا جهل يوم بدر من شأني، فلما أمكنني، حملت عليه، فضربته، فقطعت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة بن أبي جهل على عاتقي، فطرح يدي وبقيت معلقة بجلدة بجنبي، وأجهضني عنها القتال، فقاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني، وضعت قدمي عليها وانتزعتها»، هذا هو الإيمان الذي به تُصان الأمم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين